جرائم الفساد والإرهاب، بكل صوره وأشكاله، وسوء الإدارة، وإساءة استخدام السلطة، وإهدار المال العام، وضعف عناصر الحكم الرشيد، والتفسخ الاجتماعي، والانحلال الأخلاقي، وغيرها من الروائح الكريهة التي تفوح من المجتمعات وبنسب متفاوتة، وبحسب درجة انفتاحها أو انغلاقها، والتي تندرج تحت مظلة القوة السالبة، سواء أكان ذلك بسبب خلل في السياسات الموضوعة، ورخوية الأنظمة والقوانين، وهشاشة أنظمة الرقابة وأجهزة القضاء، أو بسبب ضعف النفس البشرية أمام مظاهر الحياة ومغرياتها أو كليهما.. كلها تعد سببا كافيا لإنعاش تلك القوة وإشاعة الفوضى الإدارية والفساد المالي والأخلاقي وفقدان الثقة، لا في الإنسان وقدراته فحسب بل وفي المجتمع ونظمه ومعاييره وقيمه.
ما يهمنا هنا، ومن وراء تلك المقدمة هي الحقيقة، والمقصود بها حقيقة الانحراف نحو القوة السالبة، وكمية العبث الناتجة منها والجهة المسئولة عنها. والوصول إلى تلك الحقيقة عملية معقدة وليست بالعملية السهلة. وقد لا تظهر على السطح من ذاتها، وعادة ما تكون مسيّجة بأسلاك شائكة.
وفي الواقع، هناك قوتان تتنازعان الأمر، وبينهما تكمن الحقيقة هما: قوة السلطة والنفوذ، وقوة المعرفة العلمية، فالسلطة تتواجد في كل المجتمعات، ومن أعلى المستويات إلى أدناها، شئنا ذلك أم أبينا.. فهي أمر واقع ومفروض بحكم طبيعتها السلطوية أثناء ممارستها لعملها، حتى وإن بدت القوانين والإجراءات التي تعمل بها، عصرية وحضارية. ومع ذلك قد لا يسلم الأمر في بعض الأحيان من التجاوز والاختراق للنظم والقواعد القانونية والأخلاقية لتنحاز إلى العبث والظلم دون الكشف عنه، وعبر ممراتها وأنفاقها ودهاليزها السرية الخاصة بها دون إتاحة الفرصة لأصحاب المعرفة والتنوير من أهل العلم وذوي الاختصاص لمحاولة التنقيب عنها والغوص فيها، بحكم كفاءتهم العلمية والمعرفية وفهمهم لمشكلات الواقع وتحليلاته، ومن خلال الأدوات العلمية التي يملكونها، والتي بواسطتها تمكنهم من حلحلة المسائل والعمليات الشائكة والمعقدة، والتي قد تلجأ إلى أساليبها السلطة بين الحين والآخر من داخل تلك الممرات السرية، والتي يصعب فهمها وتفكيكها من قبل الشخص العادي.
لذلك، فإن الأمر هنا بحاجة إلى التدخل السريع من أهل العلم والمعرفة، لإماطة اللثام عن الحقيقة والكشف عنها ليكونوا بذلك إما غائصين تحت السطح أو هائمين وعائمين فوقه.. فإن كانوا هائمين وعائمين، فإنها السلبية والخيانة لأمانة المسئولية والوصولية.. وقد نجد هنا من هو متصالح مع ثقافة انحراف السلطة ووثيق الصلة بها ممن لا يجد حرجا في وضع التبريرات والتخريجات العلمية والمعرفية، التي تبرر للسلطة فعلتها السلبية تلك، وبالتالي كبح جماح الحقيقة وتأخير ظهورها، أو حتى المساهمة في طمسها وضياعها إلى الأبد.. وإما إن كانوا غائصين تحت السطح، فبالتأكيد هو الرفض والتحدي والحرص على جلاء الحقيقة. والأمر هنا قد لا يخلو من المخاطرة والطريق الشائك، والتعرض للكثير من الأذى والتهديد قد يؤدي بصاحبه - أحيانا - إلى الانهيار المتسارع والتآكل، ومع كل ذلك قد نجده صلبا ومتماسكا بحبل الحقيقة وإظهارها مهما كان الثمن باهظا.
وخلاصة القول: إن الانحراف الحاصل سواء من قبل مراكز قوى السلطة والنفوذ أو من بعض جوانب المعرفة، هي من ينبغي أن يوجه إليها أصابع الاتهام، وهي من يجب أن تدان لتكشف لنا النقاب عن الحقيقة آجلا أم عاجلا.
*- الأيام