لإنجاح أي حوار ولمعالجة قضية ما بغرض الوصول إلى نتيجة طيبة ومثمرة تكون عند مستوى التوافق قدر الإمكان لدى الأطراف المتحاورة، ينبغي أولا توفر النوايا الصادقة والجادة والمخلصة في التوصل إلى حلول حقيقية ومنصفة وعادلة من شأنها معالجة ملف القضية ومحو كل آثارها، وتتخذ من المثابرة والصبر والجدية سبيلا في إدارة الحوار على أن تكون هذه المرجعية محل توافق وإجماع بشأنها من قبل الجميع بما فيها الطرف الحقيقي والذي يحمل راية تلك القضية، على أن تطرح في ذلك الحوار مختلف التباينات والآراء مهما كانت مداها طالما وهي خيارات منطقية وعادلة.
لقد تنفس الجنوبيون واستبشروا خيرا بانعقاد مؤتمر الحوار الوطني لحل قضيتهم الجنوبية بكل أسبابها ومظاهرها وأعراضها وعن كونها المدخل الأساسي لحلحلة بقية القضايا وكمحطة هامة لقطار إهدار الفرص لهذا البلد نحو التحول الديمقراطي وإصلاح المسار السياسي، إلا أنه للأسف وعلى الرغم من كل الرسائل وكل التصريحات المطمئنة والتي كانت تصدر من جميع الأطراف قبيل انعقاد ذلك المؤتمر عن كون القضية محورية وجوهرية، إلا أن ذلك كان من باب ذر الرماد على العيون ومجرد كلام للاستهلاك ودغدغة للمشاعر، وهذا ما تكشف تباعا من خلال جلسات ذلك المؤتمر ومن خلال تلك الطبخات المعدة والجاهزة سلفا للتلاعب بالقضية، ومن قبل مراكز القوى المتخلفة والحاقدة نفسها، والتي سيطرت على البلاد ومقدراته ومصيره ردحا من الزمن.
والجميع يعرف كيف جرى الأمر وفقا لذلك السيناريو الهزيل عندما تم التعامل معها كقضية ضمن الحوار لا قضية هي أصل الحوار، وكيف تم زرع العراقيل أمام بعض المتحاورين باتجاه ثنيهم عن آرائهم ومواقفهم، وكيف تم استبدالهم بعدد آخر وباتجاه استعدادهم للتخلي عن وجهة نظر بعض الأطراف السياسية، وهذا ما تجلى بوضوح عندما تم، وفي نهاية المطاف، إيعاز الأمر إلى لجنة عرفت بلجنة (8-8) والتي خلصت إلى تحديد ستة أقاليم ولم يترددوا بالتوقيع عليها بعيدا عن الحلول المنصفة والعادلة لمعالجة القضية الجنوبية وتماشيا مع توجهات تلك القوى، الأمر الذي انعكس سلبا على نتائج ذلك الحوار وبتلك المسرحية الهزلية، ولا عجب أن يكون الإخراج لمعالجة قضية بحجم الوطن بذلك الشكل طالما بقيت النظرة عن كون الوطن موضوعا في الوحدة لا عن كون الوحدة كموضوع في الوطن.
نراهم اليوم لا يكلون ولا يملون بالترويج للأكاذيب على العامية من الناس بأن تلك الأقاليم الستة ما هي إلا نتاج لما يسمى “مؤتمر الحوار الوطني” ولا يوجد حتى الآن ما يطمئن النفوس ويخلق الأمل على جدية معالجتها في ظل تصريحات من هنا وهناك تدل على تصلب مواقف أصحابها يراد به استثماره في فرض رؤيتها المتشددة تلك وبطريقتها القديمة إلي كانت سببا في تفاقم القضية طوال تلك السنوات الماضية، (وناقص يقولوا للمواطن الجنوبي إما يسلم لهذا الأمر وإلا احبسوه) دون مراعاة لدماء الشهداء ممن سقطوا دفاعا عن القضية ولا مراعاة لأمهاتهم الثكلى ولا للأرامل وأبنائهم وبناتهم، ودون مراعاة لمشاعر وأحاسيس الجرحى والمعاقين في سبيل القضية.
تذكروا ياهؤلاء إن من يصنع الأمور على الأرض هم أبناء الجنوب وإن لديهم قضية بحجم وطن وإنهم يستطيعون أن يجوبوا الساحات والميادين لمجرد الإشارة، وتذكروا أيضا بأن أعلام الجنوب ترفرف في السهول والجبال وفي الأزقة والحارات والشوارع وعلى أسطح المباني وشرفات المنازل، بينما أنتم لا تستطيعون أن تتحدثوا بخلاف ذلك إلا من أماكنكم الضيقة أو من مواقعكم المحصنة والبعيدة عن الأنظار.
إن القضية يا سادة هي انتماء وهوية شعب، وهي أكبر من أن تقرر مصيرها نخب سياسية من خارج المحيط الجنوبي أو شخص مهما علا شأنه، فالشعب الجنوبي ليس بقاصر ولا بغائب ليقرر مصيره مثل هؤلاء.. إنه حاضر وصوته مسموع، وهي الإرادة التي يجب أن يحترمها الجميع وان عدم حلها أو تجاوزها يعني عدم استقرار الداخل، وتذكروا أيضا بأن المشهد أصبح أكثر تماسكا من السابق، كما أصبح المواطن أكثر إيمانا بعدالة قضيته عن كونها مصيرية بالنسبة لمعيشته الحاضرة ولمستقبل الأجيال القادمة.
*- الأيام