المعقول في اللغة هو المنطقي الذي يقبله العقل ويمكن تصوره أو إدراكه وتصديقه، بينما اللا معقول هو ما لا يقبله العقل ولا يصدقه، وثنائية المعقول واللا معقول في الإنسان هي ثنائية يقيمها العقل ذاته ليميز المقبول من غير المقبول.
ووفقا للطبيعة البشرية ومتى ما كان العقل هو الباعث الأساسي لخلق قوة إيجابية كقوة العلم والمعرفة أو قوة الخير أو تلك القوة التي ترسي دعائم الحق كان الأمر معقولا وتصبح المعادلة بين العقل والقوة موزونة، أما إذا أصبح العقل أسيرا لمنطق القوة غير المبررة وإلى جانب الشر كالقوة القائمة على القهر والظلم سواء كانت تلك القوة عسكرية أو قوة استخدام السلطة والنفوذ، أو غيرها من وسائل الإكراه فهنا يصير الأمر لا معقولا كونه بعيدا عن العقل.
وفي إسقاط المعقول واللا معقول على القضية الجنوبية فإن المتتبع لمسارها منذ بدايتها إلى نهايتها يجد الأمر لا يخرج عن دائرة الصراع بينهما وفقا لطبيعتهما المتناقضة، فالوحدة التي قامت في 22 مايو 1990م بين الدولتين الشمال والجنوب، والتي تمت بين قادة الشطرين وباستخدام سلطة النفوذ حينها وبالطريقة التي تمت، حتى مع افتراض حسن النوايا، فإنه يمكن القول ومن منظور ذلك الصراع بأنها تمت في إطار اللا معقول، كونها لم تكن مدروسة ولا قائمة على أسس وقواعد القانون الدولي والمواثيق الدولية لسلامة وضمان إجراءات تنفيذها للوصول إلى هدفها ومضمونها الوطني والاجتماعي، علاوة على افتقادها لعملية الاستفتاء عليها من قبل أصحابها الشرعيين في الشطرين من حيث قبولها أو رفضها، وهو الأمر الذي عرضها للاهتزازات والعبث بها منذ أشهرها الأولى عندما تم تعطيل الكثير من الإجراءات التي تم الاتفاق عليها في إعلان الجمهورية اليمنية وفي دستور دولة الوحدة، وكذا تنفيذ مخطط الاغتيالات السياسية لما يزيد على 153 من قيادات ورموز سياسية وعسكرية ومدنية، مما جعلها في نطاق اللا معقول.
وكتحصيل حاصل لحالة اللا معقول الأولى والتي تمت بموجبها اتفاقية الوحدة، توج الأمر بعدها بوثيقة العهد والاتفاق والتي وإن شكلت نوعا من المعقولية كعقد جديد، بدلا من العقد الماضي، شكلت مخرجا موضوعيا للأزمة كان بالإمكان التأسيس عليه للفترة اللاحقة، ومع ذلك انتقل الأمر من ذلك القدر من المعقول إلى حالة اللا معقول عندما تم اغتيال تلك الوحدة (المغدور بها) بالقوة البربرية والوحشية بتلك الحرب الظالمة على شعب الجنوب في صيف عام 1994م، وهو الأمر الذي تم فيه استقواء طرف على طرف هو شريك أصيل في المعادلة السياسية، وتم إخراجه من مربع الشراكة إلى مربع الإقصاء والتهميش، وفرض واقع آخر من اللا معقول قائم على الضم والإلحاق وفتح الباب على مصراعيه لقوى متنفذة وفاسدة للسرقة والفيد والنهب والتخريب لمقدرات وثروات الجنوب يدل على نهج في التصفية والعبث والتدمير.
ومع فرض ذلك الواقع الجديد والمعمد بالدم ومنطق الجبروت والقوة غير المبررة، وحتى مع تلك المحاولات لإلباس العملية ثوب القداسة والطهارة من قبل أمراء تلك الحرب إلا أن الأمر ظل في إطار اللا معقول كونه جاء عن طريق فرض القوة والجبروت، وعن طريق إزهاق الأرواح وسفك الدماء وهدم البيوت على ساكنيها، وهو ما قضى على آمال وطموحات عظيمة كانت مأمولة قائمة على الحرية والعدالة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وكان ذلك سببا للمقاومة والرفض لذلك الضم والإلحاق، وولد القناعة الكافية لدى الجنوبيين بالتمسك وبشكل متعصب بهويتهم وانتمائهم للقيم المدنية والثقافية التي تراكمت عبر عقود في الجنوب وكانت تؤسس لدولة مدنية حديثة، وهو ما كان عليه ذلك الحراك السلمي منذ العام 2007م، والذي استطاع أن يجد له استجابات من قطاعات واسعة من مختلف شرائح المجتمع واستعدادهم بل وإصرارهم على التضحية حتى بأرواحهم من أجل تغيير حالة اللا معقول رغم مقاومة السلطة لكل مظاهر تلك الاحتجاجات والصيحات من خلال استخدام القوة والعنف، ومع ذلك ظل الحراك السلمي رقما صعبا لا يمكن تجاوزه في الحسابات السياسية وصلت آخر مشاهد القضية الجنوبية في تعبيراتها السياسية والشعبية لتتبلور من خلال المسيرات المليونية الضخمة الواحدة تلو الأخرى وتملأ كل ساحات وميادين الجنوب.
ومع ظهور بوادر الأمل لحل القضية الجنوبية مع السقوط المذل لذلك النظام الجائر وفقا لمعطيات الواقع الجديد استبشر الجميع بالخير لمعالجة القضية الجنوبية بطريقة عادلة إلا أنه سرعان ما تبين وفي ظل وجود تلك العقول وبتفكيرها السابق والتي كانت سببا في المشكلة إلى الالتفاف على القضية وحسمها من خلال فرض موضوع الأقاليم خارج إرادة الشعب الجنوبي، وعبر لجنة أعطت لنفسها الحق في حسم الموضوع لقضية هي بحجم الوطن وبتلك المسرحية الهزلية، وتم تسويق الأمر على أنه المنطقي والمعقول، وتجاهل المعقول والواقعي والمتمثل في الإصغاء الجيد إلى صوت الشعب في الجنوب واحترام إرادته من خلال القبول بالاستفتاء على القضية وتحت الإشراف العربي والدولي، لأن حالة المعقول هي الأصل في الطبيعة البشرية، أما حالة اللا معقول تظل سحابة صيف في طريقها للزوال كما هو حال القضية الجنوبية.
وما نحن عليه حتى اليوم من تخبط ودوران في حلقة مفرغة، وعن قصد وتجاهل، لذلك وباعتقادي أننا وصلنا إلى نهاية الحبكة، وبات الانفراج وشيكا لتتفكك معها عقدة ذلك الصراع بين المعقول واللا معقول والذي طال أمده، وهي ما تسير عليه الأوضاع على الأرض وباتجاه فرض الواقعي والمعقول ورفض ذلك اللا معقول.
* الأيام