بعد الاستقلال الضائع، كان على رأس الدولة في الجنوب زعيم وطني جنوبي سرعان ما أطاح به صنائع مكتب المندوب السامي البريطاني، فخسر الجنوب قائدًا فذًا لو قُدّر له أن يحكم البلاد عشر سنين في ظل ظروف مستقرة لغيّر وجهها ونقلها من الفقر إلى الثراء أسوة بجيرانها العرب في الخليج الذين استخرجوا ثرواتهم النفطية وعمروا بلدانهم، بينما بقي الجنوب كما تركته بريطانيا.
لو حكم قحطان الشعبي الجنوب عشر سنين لكان أحد أغنى دول العالم، فبالإضافة إلى ما يختزنه من ثروات نفطية ومعدنية، لديه بحار تمتد من عدن إلى المهرة، حيث توجد ثروة سمكية هائلة، وأراضٍ خصبة صالحة لزراعة الحبوب والقطن والفاكهة والبن وغيرها.
لم يرق توجه الرئيس قحطان الشعبي العقلاني للقوى التي تدير الأحداث وتصنع الأنظمة وفق مصالحها، فأوعزت إلى صنائعها الإطاحة به وبتياره الوطني الذي نأى بالجنوب عن توقيع أي اتفاق لتسليمه، ليحقق لاحقًا وحدة البيض، وقبله سالم ربيع، ثم علي ناصر واليمني عبدالفتاح إسماعيل.
ضغوط لإقصاء الكوادر الجنوبية
تعرّض – رحمه الله – لضغوط من قبل عصابة الهاجانة القومجية لفصل عشرات الكوادر من وظائفها، وأصدر قانونًا للإصلاح الزراعي لم توافق عليه عصابة اليسار المزيف.
كانوا يريدون إقامة نظام يساري متشدد يهدد دول المنطقة تنفيذًا للمخطط التآمري البريطاني، ويبقي البلاد في حالة فقر رغم ما تكتنزه من ثروات كبيرة، وقد حجروا عليها بعد إسقاطه في 22 يونيو 1969م. وعلى مدى عشرين عامًا افتروا عليه فصدقناهم.
لكن البيض، قبل أن يفعل فعلته، أعاد الاعتبار له ولرفاقه في قرار للمكتب السياسي باعتبارهم ضحايا ما أسماه القرار "الأساليب الخاطئة في حسم الصراعات".
وكان الرئيس قد فُرضت عليه الإقامة الجبرية، وتمت تصفية رفاقه في سجن الفتح الرهيب أو بتفجير طائرة الدبلوماسيين.
انقلاب مشؤوم
قالوا لنا بعد تقديم الرئيس قحطان استقالته في 22 يونيو 1969م إنهم قاموا بخطوة تصحيح، والحقيقة أنه انقلاب دشنوا به خطاياهم بحق الجنوب، وأخطر تلك الخطايا هو التلويح بالجنوب العربي لتسليمه لمحتل آخر.
وعلى مدى عشرين عامًا تقاتلوا فيما بينهم حتى فني أغلبهم، ولم يبق إلا البيض الذي نجا من موت محقق في مجزرة يناير 1986م، وكأنه قَدَر الجنوب أن ينجو "أحمق الخطى" ليجلب له محتلًا آخر تنفيذًا للمؤامرة البريطانية التي أدارت اللعبة عبر صنائعها، لتحرم الجنوب من قادته المخلصين الذين ربطوا على قلوبهم ورفضوا التفريط في وطنهم. فلم ينعم الجنوب باستقلال حقيقي حتى اليوم.
رحم الله الرئيس قحطان محمد الشعبي، الذي حمى خصومه من يد القوات المسلحة الجنوبية ورفض أن تُطلق رصاصة واحدة في أبين صبيحة الثامن من مارس 1968م أثناء الحفل الذي أقيم في زنجبار بمناسبة انتهاء أعمال المؤتمر الرابع للجبهة القومية، عندما قذفته بعض العناصر القومجية المتنكرة بزي النساء بنعالها القذرة وهو يهم بإلقاء كلمته أمام العمال والفلاحين والطلبة والنساء.
حينها أمر قائد الجيش بإطلاق النار قائلاً "فاير"، فسارع الرئيس بأمر مضاد "نو فاير" حتى لا يُروّع أهله في أبين أو يُصاب أحدهم بأذى.
أما الذين جاؤوا بعده فأطلقوا النار على شعبهم قبل الإطاحة به وبعدها، وقتلوا وأخفوا المئات قسرًا في طول الجنوب وعرضه، واستدرجوا أبناءه في صراعاتهم العبثية على السلطة، فسقط الآلاف، كما حدث في 13 يناير 1986م حين أشعل رئيس الدولة النيران في عدن وكل الجنوب، ليمهد لفعلة البيض في 22 مايو 1990م، فذهبت تضحيات شعبٍ ناضل من أجل الاستقلال خلال 129 عامًا سدى.