الحربُ لم تدمّرْ البنيةَ التحتية من مؤسسات ومبانٍ وجسور وطرقات ومدارسَ ومستشفيات فحسب، بل طال الدمارُ القيم والأخلاق والمبادئ، واستهدف "القصف" سلوكَ الإنسان الجنوبي وتحضّره ومدنيّته وتمدنه وكل قيمه الأخلاقية التي تربى عليها ونشأ معها خلال العقود الماضية من عُمر الدولة الجنوبية التي تميزت بسيادة القانون وأخضعتْ سلوك المواطنين من الفراشين إلى قادة البلاد لسلطة النظام والقانون ولحكم الدولة..
الحربُ دمرت الشعور بالمسؤولية ونسفت الإحساس بالوطنية وباعدت المسافة بين الوطن والمواطن كانتماءٍ وارتباط روحي ووجداني؛ فغدا الوطن (الجنوب) في حسابات كثيرٍ ممن طالهم التدمير والقصف مصدراً للنهب والسلب والاسترزاق والتكسّب غير المشروع، وباتتْ الفوضى والعبث والتصرف غير المسؤول هي السلوكُ السائد في تعاملات كثير من "العاهات" التي خلفتها الحرب.
لا نتكلمُ هنا عن شبكاتِ الكهرباء والمياه والهاتف والتخطيط المدني التي عرفتها عدن قبل دول المنطقة بعقود من الزمن، ولا نتحدث عن أنظمةِ المرور والبريد والتأمينات والمعاشات والصحة، ولا عن أيٍّ من مؤسسات الدولة الجنوبية التي صارت أثراً بعد عين وأصبحت جزءاً من التاريخ نتغنى به ونترحّمُ عليه.. نتحدثُ هنا عن السلوك الإنساني الذي تعامل مع تلك المؤسسات وعن القيم الوطنية السامية والنبيلة التي دُمرت واُستهدِفت بشكلٍ ممنهج بهدف استكمال طمس كل معالم الدولة الجنوبية بشقيها المادي والمعنوي.
ثمانيةٌ وعشرونَ عاما من الوحدة مع قبيلة "الجمهورية العربية اليمنية" خلّفتْ إرثا لعينا أضرَّ كثيرا بقيم المدنية واحترام النظام والقانون، غير أن الحرب الأخيرة استكملت ما تبقى من قيم ونسفت "أخلاق رجال الدولة"، فلم يعد لاحترام الوظيفة العامة أثرا ولا للجندية والانتماء لجيش وأمن الوطن طعما ولا مذاقا بعد أن صارت المؤسسة العسكرية أشبه بقطيعٍ لا راعي له ولا يهمه سوى الانتشار في الشوارع لاستفزاز الناس وابتزاز الضعفاء بأقبح وأحقر وأقذر الأساليب.. لم يعد في القطاع المدني ذلك الالتزام بالواجب الوظيفي ولا تلك المسؤولية تجاه اللوائح والنُظُم، وباتت كثرٌ من الوظائف مصدرا للنصب والاحتيال على البسطاء وغير البسطاء من المتعاملين والمعاملين في هذه الدائرة الحكومية أو تلك!!
الجنوب اليوم بحاجةٍ إلى مشروع نهضوي جاد لإعادة إعمار القيم والأخلاق وإعادة تقويم السلوك العام في مؤسسات الدولة ،العسكرية والمدنية، قبل الحاجة لإعمار المباني وإنشاء الطرق والجسور وسفلتة الشوراع، فلا إعمارَ بغير الأخلاق ولا تعميرَ بدون القيم الوطنية والشعور بالمسؤولية.
✍وهيب الحاجب