أضحكني كثيراً أولئك الذين يُرددون كالببغاء بأن عزل واستبعاد، أو النية في فعل ذلك، واحداً من المسئولين (الجنوبيين تحديداً) يعود إلى اتهامه بالفساد المالي.
طبعاً أنا لا أحاول هُنا الدفاع عن أي أحدٍ من أولئك المعنيين، فكل من ارتبط بشبكة مافيا كالنظام السابق جعل من الفساد قاعدة والافساد نهجاً تصبح مثل هذه التهم لا يُدانيها الشك ـ والاستثناء كقطرة ماء عذب في قعر محيط، ويكفي الإشارة إلى أملاك واحد من أولئك المسئولين المعنيين ومقارنتها بمصادر دخله ليكتشف المرء الحقيقة بسهولة، وما خُفي كان أعظم بالطبع.
ما أحاول هنا فهمه هو المنطق المُخاتِل الذي يعتمد عليه البعض لتبرير قرار من قرارات الازاحة.
وفي سبيل ذلك، علينا أن نختبر هذا المنطق من خلال تمريره على عدة فرضيات تبدو بديهية للغاية:
- النظام السابق/الحالي لم يُحاسب أو يستبعد أيّاً من مسئوليه بداعي الفساد، بل على العكس من ذلك تماماً، يُكرّم ويُرقّى الفاسد باستمرار، ويُستبعد، بكل طرق الاستبعاد الممكنة، الشرفاء والنزهاء (فرج بن غانم النموذج الأبرز).
- لو افترضنا أن "الطرف الخارجي" هو من بات يضغط لإجراء مثل هذه المحاكمات العاجلة للمفسدين في شبكة الشرعية الممتلئة بالوحل والقذارة، نتيجة ضرورة اقتضتها الضائقة المالية لا غير (فليس بمقدور أي سببٍ آخر أن يُبرر مثل هذا السلوك الطارئ على الإطلاق لتناقضه التام مع العادة التاريخية الراسخة وطريقتها في تفضيل حلفائها: خيركم خيركم فساداً).. لو افترضنا وجود ضغط خارجي يقف خلف المبادرة إلى تصحيح شبكة مجاري الشرعية من المفسدين، لصادفنا سؤال كبير بحجم الكون يلقي أمامنا بتناقض لا يمكن قياسه ولو بالسنين الضوئية: لماذا تم إعادة تدوير نفايات فساد كبيرة بحجم علي محسن والمقدشي والدفع بها إلى رأس مناصب كبيرة؟ وقد تم ذلك وهذه الثقوب الفسادية السوداء لم تتوقف قط عن الفساد والإفساد ولو لثانيةٍ واحدة.
- لو افترضنا بأن قيادة الشرعية هي من هبط عليها في أرذل العمر تأنيب ضمير مفاجئ وشعرت بالحرج من شبكة مفسديها ولصوصها الواسعة والعميقة كجبل، وبادرت من تلقاء نفسها إلى سلوك هذا الطريق الشاق، طريق التصحيح والإصلاح، لناقض ذلك، وبأعلى درجات التناقض، ما هو موجود ويجري أمام أعيننا، فالشرعية مُتهمة بالفساد من رأسها حتى أخمص قدميها، وما زالت، والفساد بات وكما قلنا أعلاه هو قاعدة السلوك الأكثر هيمنة في تعاملات البورصة الشرعجية.
من الواضح جداً أن أسباب الاستبعاد لن تكون لها علاقة بتهم الفساد والمخالفات المالية، هنالك حسابات أخرى تستدعي مثل هذه الازاحة أو الاستبعاد. لكن السرق واللصوص من الجنوبيين سيشعرون للمرة الأولى بغُصةٍ في حلوقهم وقلوبهم معاً لهذه الازدواجية الفجة في التعامل معهم مقارنة مع زملائهم من السرق الكبار العظام والأربعين ألف حرامي (الشماليين)، ولذلك قد يجدون أنفسهم مضطرون إلى المطالبة بـ"نظام موحد للسرق واللصوص". ومن غير المستبعد في ظل هذه الغُصة الخانقة أن يخرج علينا كتبتهم بعناوين تحاول التناص مع نظريات العدالة الشهيرة ولكن على طريقتها الخاص: "السرقة كإنصاف"، "التوزيع العادل للغنائم"، " مبدأ تساوي السرق"، "السرقة الإجرائية"... إلخ!