"سيذكر التاريخ يوما بان قوما اختلفوا فيما بينهم ، فدمروا أوطانهم " .
يصدق هذا القول المأثور على ما بعض علماء اليمن الذين ركبوا قدسية الدين والقيم وحب الناس لربهم ودينه وجعلوه مطية وبضاعة للوصول إلى السلطة والقفز على رقاب الناس وتحقيق المكاسب المادية والدنيوية ، كل شيء تم تغليفه باسم الدين وإخضاعه للفتوى السياسية ، فما كان حراما اليوم يمكن أن يكون حلالا بواحا غدا لمصلحة الدعوة ونصرة المسلمين .
كلما مرّت الأمة بمنعطف سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو فكري ؛ إلا وطارت الفتاوى والأقوال التحريضية التي تركب الموجه وتجيرها لصالح أحزاب وجماعات سياسية تتغطى بلباس الدين والتقوى تقية وزيفا ، ليكون الدين والشرع ما يوافق أهواء أحزابهم ومشايخهم وأنصارهم وحركاتهم ، فبالأمس كانت المطالبة بالحقوق ونقد الظلم والاستغاثة من جور الحاكم حراما وكفرا ، أما اليوم فهو ثورة ونصرة لدين الله ، ومنحتهم بعض الأحزاب والعلماء شهادات براءة اختراع ثورية .
اتهام شعبا كاملا بثقافته وفكره ومنهجه ، ودولة وأمة بقوانينها وسياستها عام 1994م بأنهم خارجون عن دين الله ، ويجب إعادتهم بقوة السيف إلى دولة الشرع والشريعة والخضوع للشرعية الإسلامية لدولة الشمال وتشريعاتها المتخلفة ، وشنت على الجنوب حربا دينية استباحت أرضه وشعبه وثرواته ومصالحه ، فلم تحقق دولة الوحدة التي دبج دستورها عبارة " الإسلام دين الدولة ، والمصدر الأساس للتشريع " ، وبعد حرب الوحدة لم تتحقق شريعة الإسلام ، ولا قوانين وثقافة الدولة ، بل رسخت هذه السلطة وأحزابها الدينية وعلماءها وفتاويها الظلم والفيد والسرقة والظلم وترسيخ الإقصاء وحصرية السلطة والثروة في جماعة وطائفة ومنطقة جغرافية " دولة الشمال " ، وفقا لنظرية عودة الفرع " الجنوب " للاصل " الشمال " ، ونتيجة لضغط الثورة وانفجار الأزمة في المركز " صنعاء " بين الأطراف المستحوذة على السلطة والثروة والقوة تمّ الاعتراف بكل الجرائم في الجنوب وطالبت بالاعتذار للجنوبين من قبل هذه الأحزاب المتدينة والقوى المتاسلمة .
هذه القوى والأحزاب المعتنقة للإسلام السياسي التي انتعشت مع قدوم الربيع العربي ، وسال لعابها لاعتلاء كراسي الحكم ، فسارت بتهور وتعجل لاستثمار الدين والإسلام والقيم للسيطرة على المنطقة العربية وإقامة مشروعها بدعم وغطاء من أمريكا والدول الكبرى ، فجعلت هذه القوى في اليمن تصدر البيانات والفتاوى التي تطايرت في كل مكان بالدعوة للجهاد في ليبيا وسوريا ومنطقة دماج ، فشجعت الثورة في اليمن وشرعت العنف والفوضى ، وحين وقعت اليمن في الوصاية التي طلبتها هذه القوى وطالبت بتدخلها العسكري في بلدها ، وتفلتت الزمام واتسعت دائرة الدول الإقليمية والدولية المتحكمة في الملعب اليمني شرعت هذه الأحزاب والشخصيات المتاسلمة تعود لسيرتها الأولى من إدارة السياسة بالفتاوى والتحريض للحرب المقدسة للحفاظ على مصالحها وتنفيذ أجندات وسياسات أحزابها وتنظيماتها ذات الارتباط الحزبي والقطري والعالمي .
نشهد اليوم غبارا قاتما ينبعث من مداخن هذه الجماعات والأحزاب حين شارف مؤتمر الحوار تكتمل نتائجه النظرية ولو كانت مجرد رؤى وأقوال تجاهد لتطبيق هذه القرارات في ارض الواقع المتسم بتوسع الصراع السياسي والحزبي والمناطقي والمذهبي ، شرعت قوى الإسلام السياسي تدبج الفتاوى ، وتحرض على مؤتمر الحوار الوطني ونتائجه ، وترفض هذا الرأي وتكفره ، وتحذر من إتباع ذلك الموقف وإلا دعت للحرب المقدسة وشرعنت جهاد وتصفية من يخالف آرائها وأقولها . كل ذلك يتم تحت مظلة الشرع وتجير الفتاوى السياسية ، وإصرارها الشديد على إعادة ماسي الماضي الذي خطته دولة الوحدة المتسترة بغطاء الدين والفتوى . الغريب في هذه المجالس والهيئات أن تغير لونها وتبدل فتواها تماشيا مع المصلحة والأهداف السياسية لأحزابها وتنظيماتها ، فمجلس علماء اليمن ، ومجلس علماء حضرموت ، علماء السنة ، مجلس السلف بالجنوب ، وهكذا تتعدد المجالس والهيئات وتتكرر معها الشخصيات والوجوه نفسها ، ولكن المتغير الوحيد في هذه المجالس تغير الفتوى الشرعية بتغير المجلس والهيئات ، فمجالس علماء اليمن ترى الوحدة مقدسا دينيا لا يجوز الخروج عليه ، ومجالس الجنوب تجيز رفض الظلم ومطالبة الجنوب بحقوقيه الشرعية في تقرير مصيره ؟! .