أثناء الاحتضار، يُبَشَّر المؤمن بالجنة، وتَعِدُه الملائكة بأنه منذ هذه اللحظة وحتى دخوله الجنة؛ لا خوف عليه من الآتي، ولا يجب عليه أن يحزن على ما فاته أو على مَن تركهم في الدنيا من أحبةٍ له: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون) فصلت 30، وهذا ينفي ما قيل وزُعِمَ من أن لموت المؤمن سكراتٍ وغمرات، وأن النبي الأعظم والرسول الأكرم محمدًا – صلى الله عليه وسلم – قد عاناها وعاينها، وإن صحت الأخبار؛ فهي آلام المرض لا غير.
ذلك أن مَن يعالج سكرات الموت هم الظالمون (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُون) الأنعام 93، وعذاب الهون هو عذاب النار، وقد عُبِّرَ بقول: "اليوم" لأنه لا زمنَ بين الموت والبعث، وهو ما نجده كذلك في آية أخرى (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق) الأنفال 50، وعذاب الحريق هو نار جهنم.
هذا وإن القول بأن المؤمن في قبره يكون خائفًا ويأتيه ملَكان مخيفان ويسألانه وهو وَجِلٌ يخشى أن لا يستطيع الإجابة فيكونَ من المعذَّبين، هو قول مصادم للقرآن مصادمة عنيفة؛ لأنه كان قد بُشِّرَ بالأمن وقت خروج نفسه، كما أن ضغط القبر لجسد الميت حتى تختلف أضلاعه - كما قيل - وعذاب القبر وسؤال الملكين، هي أمور لا حقيقة لها ما دام الإنسان منفصلًا عن أي جسد وإنما هو مجرد نفسٌ لا شعور بها ولا وعي لها.
ذلك أن الإنسان مكون من نفس وجسد (أما الروح فأمر آخر)، والنفس دون جسد، لا تشعر بالزمان ولا المكان، ولا الألم ولا اللذة. وقد خلق الله نفوسَنا كلَّها يوم خلق آدم، ثم عرضها عليه – جَلَّ شأنُه – وشَهِدنا له بالربوبية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) الأعراف 172.
ومنذ تلك الأزمنة السحيقة وحتى تُستَودَع َالنفسُ في جسد الإنسان وهو جنين في بطن أمه، لا شعورَ ولا وعيَ ولا قبل ولا بعد ولا مكان ولا زمان ألبتَّة (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَع) الأنعام 98.
فإذا ما مات الإنسان؛ خرجت نفسه من جسده، فلم تَعُد تشعر بشيء، ولا وجود "فيزيائيًّا" لها، ولن تعود للوعي إلا بعد أن تلبس جسدًا آخر يوم البعث.
والقول بأن في القبر عذابًا، يقدح في عدل الله – تعالى – لأن العادل لا يعذب قبل أن يحاسِب، كما أن النفس لا تشعر بألم العذاب ما لم تَرْتَدِ لباسًا يحوي موصلات عصبية تجعلها تشعر بالألم، ولو كانت النفس تشعر ما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَاب) النساء 56، فلا بد من جسد، وجسدٍ ذي جِلْدٍ يشعر بالألم وليس أي جسد.
أما في قوله تعالى عن آل فرعون (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب) غافر 46، فالعرض لا يستلزم العذاب، قال تعالى: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ) الشورى 44 – 45.
ومَن يَرَ تعارضًا بين قولنا بأن الروح لا وعي لها، وبين وعي آل فرعون برؤية العذاب؛ نَقُلْ له إن هذا استثناء من الله، فقد سبق وأن أَعطَى الله الأنفس وعيًا "مؤقتًا" كي تشهد بربوبيته، ثم عادت لطبيعتها غير الواعية، وكذلك آل فرعون إنما حالُهم هنا استثناءٌ من الجميع.
ومما يعضد ذلك، هو أن الكافرين سيقولون حالَ رَدِّهم إلى أجسادهم الجديدة يوم البعث: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) يس 52. كما أن في عدم إحساس الرجل الذي مَرَّ بقرية بأنه مكث مئة عامٍ وهو ميت، برهانًا على ما نقول. قال سبحانه في شأن صاحب القرية: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَام) البقرة 259.
ونختم بالتأكيد على أن النص القرآني هو نص قطعي الثبوت لا تتطرق إليه ذرة شكٍّ واحدة، بينما ما غيره من النصوص هي نصوص ظنية الثبوت مهما قيل عنها، ومن العقل والمنطق، أن يُحاكَم الظني إلى القطعي، وليس العكس.