مما يلحظ على الأداء الإعلامي الجنوبي الموجّه أنه مازال بعيداً بمسافات تكاد تكون ضوئية عن المهنية والمصداقية في تناول الأحداث والفعاليات في مشهد الثورة الجنوبية السلمية التحررية.
يبدو ذلك واضحاً للمتابع المحلي ناهيك عن المتابع الخارجي، بنمطية ذلك الأداء وسطحيته وانتمائه غالباً إلى عصر ما قبل الثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الإعلام.
(1)
لن استطرد في المقال، وسأختار عينتين رئيستين مما يقدمهما الإعلام الجنوبي الموجه، بطريقة لا ترفد فاعلية كل منهما باعتبارهما أداتين نوعيتين من أدوات المقاومة السلمية المتاحة، أعني: المليونيات والعصيان المدني.
أ- المليونيات: وهي تعبير شعبي ميداني أثبت به شعب الجنوب المؤمن بقضيته استعداده لتقديم النموذج تلو الآخر، لكي يوصل رسالته إلى العالم، وهي رسالة لا لبسَ فيها، مفادها أن أي مشروع أدنى من دولة جنوبية مستقلة ذات سيادة لن يقبل به الشعب، فضلاً عن أنه ثابت على المبدأ والعهد.
لكن تلك (المليونيات) التي توالى تنظيمها، برغم ما أحدثته من زخم عالٍ، لم تؤد إلى تحول نوعي في مسار القضية كما ينبغي، بل تحولت، في ظل التباينات، إلى أداة للتسابق على إعلانها دون تنسيق أو توافق، وبدلاً من أن تكون وسيلة تحولت إلى غاية في حد ذاتها، ليغدو الحديث عن نجاح المليونية أطغى من الحديث عن توظيفها سياسياً، أو نقلها من تعبير ميداني شعبي إلى فاعلية سياسية، ترفدها المليونية اللاحقة بمدد شعبي آخر، ولا تكرر المليونية التالية شكل وأداء ورسالة المليونية السابقة.
ب- العصيان المدني: وهو تعبير شعبي ميداني آخر، تم اتخاذه أداةً نضالية سلمية في فترات سابقة بشكل غير مدني (غير سلمي)، ولو تم تنفيذه بمضمونه الحقيقي، لأدى إلى نتائج مهمة، ولكنه إلى الآن مازال أقرب إلى الإضراب العام عن العمل منه إلى العصيان المدني، فضلاً عن أنه ليس منظماً كما ينبغي.
ولعل العصيان المدني الموصوف إعلامياً بالشامل أيضاً، لم يصل بعد إلى صيغة العصيان المدني كما هي في نماذج العالم، فضلاً عما يرافقه من توظيف لا يستهدف الإضرار بمصالح نظام الاحتلال غالباً، مثلما يستهدف إصابة مصالح المواطنين العامة بالشلل، وهنا يفقد العصيان مضمونه المدني الحقيقي، لكن الإعلام الموجه يقدمه من خلال خطاب يزيف الحقائق، ويروّج لنجاح غير ملموس، ذلك أن المصالح الحيوية لنظام الاحتلال لا تمس بدرجة أساسية، أما إغلاق المحلات التجارية مثلاً فهو جزء من تعبير هذه الشريحة عن موقفها هي من واقع الاحتلال، وليس استجابة فعلية لدعوة مكون أو آخر، وهو ما يضع أمام المكونات ولاسيما قياداتها أسئلة صعبة عن مدى فاعليتها في المؤسسات المؤثرة سلباً على اقتصاديات نظام الاحتلال، ومنها الشركات النفطية. فمثلاً هل توقف ضخ النفط في أي واقعة عصيان؟ وهل أصيب ميناء تصدير النفط بالشلل الكلي أو النصفي مثلاً في أي واقعة عصيان؟.
ذلك أن توقف بعض المصالح المدنية عن العمل لا يضر كثيراً بمصالح المحتل قدر إضراره بمصالح المواطنين، لتظل مصالح نظام الاحتلال بمنأى عن أن يمسها أثر العصيان الذي يقطع شرايين المدن، فيبدو – وهذا ليس هو الهدف المعلن للعصيان- كأنه موجّه ضد المواطنين السالكين إلى مصالح معينة قد لا تحتمل التأجيل، فيما يقضي أتباع نظام الاحتلال يوم إجازة (إجبارية) ممتعة في بيوتهم متخففين من مواجهة قاسية مع شعب الجنوب في ذكرى الاحتلال، بل إن القات – هذا المنتج الاحتلالي المدمر والدخيل على حضرموت – لم يصل أثر أو نبأ العصيان إلى سوق من أسواقه المنتشرة في مدن حضرموت وأريافها التي شملها العصيان الشامل، وبموازاة ذلك كان هناك متجمهرون عديدون في (فعالية 7 يوليو) متكئين على عتبات محلات المكلا التجارية (المغلقة)، مواجهين منصة الاحتفالية، يمضغون (قات التحرير والاستقلال!!) المشترَى من أسواق الاحتلال (المفتوحة) في المكلا، في يوم رفض الاحتلال!.
(2)
ولأن هاتين الأداتين (المليونيات والعصيان المدني) مما يعنى به العالم، في إطار النضال السلمي- وكان من اللافت والمهم جداً تضمين تقرير المبعوث الأممي السيد جمال بن عمر إشارات دالة إليهما في تقاريره الأخيرة المقدمة إلى مجلس الأمن الدولي- فقد أصبحتا أداتين للاستقواء وإثبات الوجود، ليس للقضية من حيث هي، وإنما للمكونات ولاسيما قياداتها، ومن هنا تأتي تبعية الإعلام الجنوبي الموجه، في تجيير أيّ من الأداتين لتضخيم دور الأداة التي يستخدمها هذا الطرف أو ذاك.
ومع أنهما، بلاشك، أداتان سلميتان ناجعتان، لكن توظيفهما مازال محدوداً، ولقد حال التنافس على قطف ثمارهما بين المكونات والقيادات، دون أن تكونا فاعلتين في الانتقال بالقضية إلى مساراتها الحقيقية سياسياً.
ولعل المتابع يتساءل الآن: وماذا بعدُ، أيها الجنوبيون؟
يبدو لي أن الإجابة ليست بشيء من جلد الذات أو تجريح المكونات أو القيادات أو تشريحها، وإنما في مواجهة الحقيقة كما هي، دون رتوش، ودون مسكوت عنه، فالمليونيات بلغت ذروتها السابعة في 21 مايو 2013م، وكادت تكون في المكلا ذروة ثامنة تضيف إلى زخم سابقاتها إضافات نوعية، لولا التباينات والمعوقات التي أحاطت بها في حضرموت خاصة، تنظيمياً وميدانياً وإعلامياً.
ولذلك فإن أي مليونية أو أي عصيان مدني على الشاكلة المعتادة في إطار التنافس غير الموضوعي على الدعوة والتنظيم، ربما يسجلان انحداراً للخط البياني للقضية إعلامياً، وقد لا يمثلان رافعة سلمية لعمل سياسي نوعي، بل لعلهما يمثلان تعبيراً عن نزعة شعورية للجهة الداعية، أياً كانت، ترسخ اعتقاداً لديها بأن لها قاعدة شعبية حقيقية أو افتراضية، وقد يعميها ذلك الشعور عن أن تقترب أكثر من شركائها في النضال السلمي، والعمل على القواسم المشتركة الكثيرة التي تخلق توازناً مطلوباً على الأرض، بل لعله يمنحها شكلاً من أشكال الزهو وتضخيم الذات، الذي هو على النقيض من جوهر الفعل الثوري الناضج، فضلاً عن أنه يؤسس لنزعة استبدادية متقدمة، لا تبشر بأفق ديمقراطي يفترض بالنضال السلمي أنه مَعبَر آمن إليه، وهو ما تحتشد جماهير الثورة الجنوبية السلمية التحررية من أجله في الساحات، وقدمت وتقدم التضحيات تلو التضحيات في سبيله.
ومن هنا تأتي أهمية خلق التوازن لئلا يستبد بالقرار والميدان أي مستبد، من أي طرف كان، ذلك أن الاستبداد سمة لا تختص بها السلطات والأنظمة الحاكمة، إذ أن لها ملامحها الظاهرة والكامنة في تكوينات الحركات المناهضة للسلطات والأنظمة وقوى الاحتلال أيضاً، وتتجلى خطورتها الشديدة في توجيه ضرباتها المادية والمعنوية إلى فرقائها / شركائها في النضال باعتبارهم أكثر خطورة من السلطات والأنظمة وقوى الاحتلال التي يشتركون في مناهضتها بأساليب مختلفة، ويتلقون ضرباتها وآلات قمعها على حد سواء.
(3)
الإعلام الجنوبي الموجه ( وأعني به هنا كل الوسائل الإعلامية المتاحة من أقنية فضائية إلى مواقع إلكترونية وصحف وشبكات تواصل اجتماعي...إلخ)، إن لم يتم العمل على ترشيده، باعتباره حاملاً إعلامياً للقضية، وليس أداة للمكونات أو القيادات، فسيظل يبث وعياً زائفاً، وسيعمل على إبهات العناصر الإيجابية في النضال السلمي، وسيحيله إلى أداة من أدوات تفتيت عناصر القوة وفاعليتها الحقيقية، وسيبقى – ويا للمفارقة – أشبه بإعلام الأنظمة الاستبدادية، فيما يفترض فيه أنه إعلام ثورة شعبية سلمية تحررية. فهل يدرك القائمون على الإعلام الجنوبي الموجه، وهل تدرك المكونات ولاسيما قياداتها خطورة هذا الأداء على قضية شعب الجنوب، وعليها هي أيضاً، ومن ثم جنايته على ثورة سلمية رائدة في مسار ثورات الربيع العربي؟!.
المكلا: 9/يوليو/2013