يصنعون الحياة والفرح

2018-07-14 13:55

 

 ليس حنيناً إلى الماضي، وليس تعلّقاً بأستاره، فليس كلّ ماضٍ جميلاً بالضرورة، لكنه استحضار للحظات تتداعى إلى ذاكرتي من أقاصيها البعيدة، لطرافةٍ فيها أو لإعادة تأملها كما هي بلا رتوش من تنميق الكلام أو تصفيفه.

    لعل للأرياف نكهة خاصة، يبزّ بها الريفي قرينه المديني، فمن كانت نشأته ريفية فهو أقرب إلى نبض الطبيعة وهمسها وهجسها، فهو يدرج في بيئة بسيطة تنعكس بشكل أو بآخر على نفسيات الناس في الأرياف والقرى. فأن يقضي الطفل  أوالطفلة والصبي أوالصبية والفتى أو الفتاة والشاب أو الشابة سحابة نهاره، بل أن يفتح عينيه على حقول، ومزارع، ووديان، وحيوانات أليفة، ورائحة الأرض الريانة بالمياه والثمار والمحاصيل والمواسم المتجددة، فذاك مما يرسم في مرايا العيون لوحات عصية على المحو ، مهما يتقادم الزمن أو يتقدم في جريه نحو تحولات مفاجئة.

    ولعلي في هذه الوقفة أستدعي صور المشتغلين بالأرض، أولئك الذين لا يزرعون الأرض وينتجون الثمار والمحاصيل المختلفة ألوانها فقط، وإنما هم الذين يتماهون في الإبداع شعراً ورقصاً، حتى ليخيل إليك أنهم موكّلون بصناعة الحياة من عرق الجبين نهاراً، وبصناعة الفرح، والفرح ببهجة الحياة التي يصنعونها ليلاً.

   أتذكر كيف كان عشق أولئك للأرض، واهتمامهم العميق بتفاصيل التفاصيل، واشتغالهم بها بفرح دافق، وكيف كانت نفوسهم سخية وهي تجود على العابرين بأشياء مما تحصد أو تجني، وكيف كان أولئك يعملون بنشاطٍ لافت، ثم يروّحون عن أنفسهم في المشاركات الوجدانية في الأعراس ومواسم الاحتفالات الشعبية كالزيارات السنوية، ولا يستنكفون أبداً، فلا مكان بعيداً في تصورهم، مادام هناك واجب ينبغي أو يؤدّى، أو جبر خاطر لا يجدون من دونه ما يدعو للاعتذار. يذهبون راجلين غالباً، بأقدام حافية، في ليالٍ مقمرة كانت أم حالكة الظلام، فما يضيء الطريق والقلوب هو ذلك السر الكامن في النفوس الجميلة.

    هؤلاء هم أبناء الطبيعة الريفية، بسطاء مثلها، يغدقون على الزمان والمكان مثلما تغدقالأرض عليهم من خيراتها بقدرما يغدقون عليها من محبة وعرق وترنم. حتى لقد كنت أظن أن النخيل والأشجار لا ترتوي بالماء ولا تطرى بالسماد، ولكنها كانت تسمق وتُدنى جناها، كلما فاض عليها أولئك المزارعون الرائعون من بهجة في أهازيجهم الجميلة وترانيم أصواتهم العذبة.

    هناك حكايات وذكريات جديرة بالتدوين، فهي أشبه الآن بالحديث عن قرون ماضية من الطيبة، لكني سأكتفي هنا بموقف لأحد الشعراء من أولئك، فقد صدف أن كان هناك في مطلع السبعينيات (زهو) أي فرح بأحد الأعراس في إحدى القرى، قبل دخولها عصر الكهرباء طبعاً، فقد أحضر ذوو العرس ماطوراً كهربائياً صغيراً، ومدوا أسلاكاً بين بيت العرس وساحة الابتهاج به، بالهبيش والحفّة، فلما رأى الشاعر سُرجاً كهربائية أبيض لونها يعتلي الساحة، فتضيء المكان بطريقة تختلف عما اعتادها من سمر على ضوء القمر أو حتى (الأتاريك) المحمولة، لم يستفتح قوله الشعري، بعيداً عن سياق بهجته بهذا الضوء الطريف. فعلى عادة الشعراء في الافتتاح بالبسملة والحمدلة، ثم السلام على الجمهور، فالخوض في موضوع ما، برمزيات جميلة أحياناً وبتصريحات شفافة أحياناً أخرى، بسملَ الشاعر – وهو من المتماهين بالأرض طول نهاره – وحمدلَ، ثم لم يفته أن يبدأ بالسلام على الكهرباء، قبل جمهور الحاضرين، فقال:

وسلام ع الويجر

و ع ذه الكرهبة

وخصكم جَمع يالحاضرين

 

ثم خاض في القول، كالمعتاد، وخاض معه الآخرون. كنت حينئذ صبياً، فراقني قوله، وطرافة التفاته إلى الجديد المختلف، فخصّه بالسلام الطريف، فالسلك الكهربائي (الواير)، جميل على لسانه بتلفظه الطبيعي (ويجر)، والكهرباء جميلة أيضاً مصحّفةً حروفها (كرهبة)، ثم تذكُّره الحاضرينَ مخصوصين بالسلام جميعاً. لكن ذلك الريفي ابن الطبيعة وعاشقها لم يكن يدرك أن زمن الكهرباء – على بؤس حاله في أيامنا هذه لأسباب معلومة لكن عابرة بإذن الله – سيطوى صفحات البراءة الأولى والطرافة في الإقبال على الطبيعة والحياة والناس.

                                              

*- د سعيد الجريري

* مقالي في نشرة ( شبدوت) ع 2018 – 7