سقطرى في الذاكرة الشعبية العميقة جزيرة الأساطير والجنيات العابرات المحيط والعواطف أيضاً. تعود بي الذاكرة الآن إلى مطلع السبعينيات عندما كان الخط البحري مفتوحاً على وسعه بين سقطرى وبلدات شرقي حضرموت وقراها كقصيعر والريدة والديس الشرقية، وما يحف بالخيال مما يرويه البحارة ويتداوله الرجال والنساء عن غرائبية تلك الجزيرة الغريبة في مسماها وأخبارها وملامح أهليها، وكيف تتملك حوريات البحر السقطريات أفئدة الرجال، وما يحطنهم به من مفاعيل السحر الذي به عن كل شيء يذهلون.
سقطرى فاتنة مدهشة فتنة المحيط ودهشته اللتين يبحر باتجاههما المبحرون، ثم يعودون وقد تلبستهم حالات غريبة، هي مخيال طفولتنا، من مسّ جمالي غرائبي، فالعائد من سقطرى مولود، تتلامح في إهابه مهابة عجيبة.
ومن الطريف أن إطلالتي على سقطرى - وكان في النفس شيء منها منذ الصبا - أنها لم تكن رحلة على قارب صيد أو باخرة شراعية، وإنما كانت على سفينة حربية، في أجواء مناورة عسكرية تدريبية مشتركة بين قوات البحرية، وكان مركزها عدن، وقوات الأسطول السوفيتي في المحيط الهندي. كنت حينئذ -1982- مجنداً في قيادة القوى البحرية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، مهمتي، عادةً، خط الرسومات الإيضاحية لخطط التدريب في لوحات من الورق المقوى، لكن مهمتي في المناورة كانت مختلفة، مكنتني من دخول الغرفة الرئيسية في سفينة القيادة، جنباً إلى جنب مع قائد البحرية وركني التدريب والعمليات ومساعديهم ومستشاريهم، لأقوم برسم مسار المناورة بالعقدة البحرية على ورق شفاف صقيل، فكانت رحلة بحرية ولا في الأحلام، كنت أطل فيها على المحيط من علو سفينة القيادة المهيبة، من نقطة الانطلاق في عدن مروراً بالمكلا وصولاً إلى سقطرى لأول مرة، والنزول إليها ليس كبحار تنتظره حوريات الجزيرة العجيبة، وإنما محفوفاً بلحظة نجاح تنفيذ المناورة، حيث الأجواء الاحتفالية بحضور وزير الدفاع وكبار قيادات الجيش والخبراء السوفييت.
كانت رحلة طويلة تخللها نزول إلى المكلا بقوارب مطاطية، فقد كان الوصول قبيل المغرب، فبدت لي المدينة من جهة البحر وهي تشعل قناديل مسائها مختلفة عن تلك المكلا التي أعرف شوارعها ومحالها وملامح أهليها، ورأيتني كالسائح الغريب الذي يتراءى له مرساها عتبة لاكتشاف الدهشة، وما عمق ذلك الإحساس أن أغلب من كانوا برفقتي من المجندين والضباط يفدون إلى المكلا للمرة الأولى، وقد بدت لي الدهشة متلالئة في عيونهم، كالقناديل المتلألئة أضواؤها على صفحة بحر المكلا الهادئ هدوء ساكنيها.
أن تدخل المكلا قبيل المغرب بقارب مطاطي، وقد حُددت لك ساعات معينة للتجوال في المدينة، فأنت أشبه بالسائح العابر، لكن المفاجئ أن تجد نفسك تؤدي دور الدليل السياحي، ويعزز ذلك أن لا وجود لأي مظهر عسكري، فلا أسلحة محمولة، ولا مسدس يُرى بخاصرة أي ضابط ممن كانوا في أقصى مدنيتهم. يومئذ رأيت المكلا كما لم أرها من قبل، كأنني لم أتسكع في شوارعها مع الأصدقاء أو لم ألعب الكرة معهم في سيف حميد، ولم أشاهد فيلماً في أي من دور السينما فيها، ولم أذق الصيادية أو البراوطة و"صانة الخضرة" في أي من مطاعمها أو لم أقتني كتاباً أو مجلة من أي من مكتباتها أو لم أصلِّ في مساجدها... أو ...
كان القادة العسكريون في منتهى الهدوء والانضباط، وكان كل شيء يمضي بسلاسة، وكنت أؤدي مهمتي بصمت يتخلله توجيهات صوتية من أجهزة الرادار والمراقبة وشبكة الارتباط، وكلما قطعت السفينة مسافة معينة محسوبة أدوّن علامة معينة على خارطة بحرية ذات رموز معينة، وشيفرة دقيقة. لكن ما كان يخرجني من صرامة ذلك العمل هو ما يفتعله أحد الأصدقاء من مجندي كتيبة الإمداد والتموين، إذ كان يصعد من قاع السفينة حيث يشتغل، ليصطحبني معه، مستأذناً لي من الضابط المناوب، فيفتح باب الثلاجة الكبير حيث الفواكه مختلف أنواعها، قائلاً لي بنبرة حلفونية: (تعال خنّحا نفغش في التفاح)، فأجاريه فاغشاً كما يفغش، ثم نمضي وقتاً معاً نراقب الأفق من نافذة غرفته، لكنه كلما استوحشني كان يصعد إلى غرفة القيادة حيث أدوّن خط المسار على الخارطة، مستأذناً لي من الضابط المناوب، ليصطحبني نحو ذلك الباب الذي يفتحه على إيقاع جملة (تعال خنّحا نفغش في التفاح)، فنفغش في التفاح والبرتقال وما جاورهما من فواكه أخرى.
في عرض المحيط، في الطريق إلى سقطرى سمعنا ورأينا لأول مرة أصوات المدافع منطلقة من سفن بحرية ضخمة، لا يوقفها انهمار المطر بغزارة، أو انطلاق الرياح بقوة خرافية، لكن ما يهدئ من رَوعي أن كل شيء كان يسير بدقة، وفق الخطط المرسومة، وكان يرتسم على ملامح القادة، وسحناتهم، ونبرة أصواتهم، ثم أنني كنت في وضع من يضع رجلاً على رجل، وأمامه على الطاولة المستطيلة كوب من الشاي بالحليب، ثم تنقشع الغيوم، وتصمت المدافع وتشرق شمس عجيبة فترى في منتهى الأفق جزيرة تدنو رويداً رويداً، ثم نهبط إليها، حيث كنا على موعد مع تفاصيل جزيرة السحر القديم، كما هي في حكايات البحارة وما يحف بها من غموض فاتن.
*- د سعيد الجريري
* مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوفيق والنشر
مقالي في العدد الثامن 2018 من مجلة حضرموت الثقافية*