لقرون مضت والتعليم لا يتعدى المجال الديني، دراسة اللغة من أجل دراسة التفسير والحديث، لكن في عصرنا الحاضر المتطليات تعددت، ولابد من تديد وتحديث.
(خلاصة من بحث زباد فرج 'إصلاح التعليم الديني في العصر الحديث الأزهر والزيتونة'، ضمن الكتاب 103 (تموز 2015) 'جدل التعليم الديني: التاريخ النماذج الإصلاح' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.)
بداية، نعرض لوضع التعليم القائم حتى بدايات العصر الحديث، فقد كان نظام التعليم في العالم الإسلامي –تقريباً- واحدا، لا توجد اختلافات تذكر بين بلدٍ وآخر، أو مدرسة وأخرى، سواء في الشكل أو المضمون، وغلب عليه الطابع الديني، فكان تحصيل قدرٍ من العلوم الدينية أمراً ضرورياً لكل من ينتظم في التعليم على اختلاف درجاته، بينما كان تحصيل العلوم الأخرى، غير المتعلقة بالشريعة الإسلامية، أمراً متروكاً لحاجة صاحبه. ويمكننا القول: إن التعليم حتى بداية العصر الحديث في أوائل القرن التاسع عشر كان في مجمله تعليماً دينياً.
الأزهر مثالاً
كانت الدراسة بالجامع الأزهر تسير تبعاً لنظام الحلقات الدراسية، الذي اشتهر بمصر منذ القرن الثاني للهجرة، فكان الأستاذ يجلس ليقرأ درسه في حلقة من تلاميذه والمستمعين إليه، وتنظم الحلقات في الزمان والمكان طبقاً للمواد التي تدرس، وتمتع الطلاب بحرية اختيار المواد التي يدرسونها؛ وكثيراً ما اعتمد الاختيار على مكانة المدرس وشهرته العلمية، ويظل الطالب يحضر دروس أحد المدرسين حتى يأخذ كفايته من العلم، فينتقل إلى مدرس آخر وهكذا، وإذا أتم الطالب دراسته.
وتأهل للفتوى والتدريس، أجاز له شيخه ذلك، وكتب له إجازة يذكر فيها اسم الطالب وشيخه ومذهبه وتاريخ الإجازة وغير ذلك من فضائل الطالب ومقدرته العلمية، ويذكر فيها –أيضاً- ما قرأ على أستاذه من كتب أجاز له أن يقوم بتدريسها، وقد تقتصر الإجازة على الإذن بتدريس مادة معينة، أو مذهب فقهي معين، والإفتاء به، وتتوقف قيمة الإجازة على سمعة الشيخ الذي صدرت عنه، ومكانته العلمية. ويعود تاريخ أقدم إجازة علمية معروفة لعام 276هـ، أي القرن الثالث الهجري، منحها الشيخ ابن أبي خثيمة الحافظ المؤرخ إلى تلميذه أبي زكريا يحيى بن مسلمة.
ولم تكن الدراسة طبقاً لخطة محددة، أو منهج موضوع، بل كان الأمر متروكاً للشيخ في اختيار الكتب التي يدرسها، وكانت الدراسة في الأزهر تنقسم إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: يبدأ الطالب فيها بحفظ القرآن، وتعلم القراءة والكتابة، وقد يدرس إلى جانب ذلك شيئاً من حساب المقاييس والموازين، وغالباً ما يتلقى الناشئ هذه الدراسة الأولية في المساجد أو الكتاتيب، في قريته أو حيه، أو في الجامع الأزهر.
المرحلة الثانية: وفيها يظل الطالب تحت إشراف أستاذه الذي يلقنه دروساً في القراءة وكتابة الموضوعات الإنشائية التي يتدرج فيها من السهولة إلى الصعوبة، متمشياً في ذلك مع النمو العقلي للتلميذ، وفي هذه المرحلة يكون التلميذ قد حفظ القرآن الكريم، فامتلأت به نفسه، وتقوم لسانه.
المرحلة الثالثة: وفيها يدرس الطالب علوم الدين، من فقه وحديث وتفسير وتوحيد وأخلاق وما إليها، كما يدرس علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، وغير ذلك من العلوم العربية.
وفي بعض الأحيان كان فريق من الطلاب يدرسون علوم الطبيعة والرياضيات والفلك والهندسة والطب، وكان علم الطب يطالعه الطلاب بالأزهر حتى عصر محمد علي باشا، وقد كانت لـ"عبدالرحمن الجبرتي" (المؤرخ المشهور) عناية بدراسة الطب؛ فقد كتب ملخصاً لتذكرة داود الأنطاكي في الطب، مازالت محفوظة في مكتبة الأزهر حتى الآن.
ولم يكن هناك ما يلزم طلبة العلم بالاتجاه إلى العلوم الطبيعية والرياضية والطبية وغيرها من العلوم العقلية، فأهمل الطلاب دراستها، إلا من وجدت لديه الرغبة الشخصية، والدافع الذاتي، لدراستها، من أمثال: الشيخ أحمد الدمنهوري 1190هـ، والشيخ حسن الجبرتي 1188هـ (والد المؤرخ)، والشيخ حسن العطار 1250هـ، وغيرهم ممن تاقت نفوسهم إلى دراسة هذه العلوم.
الزيتونة مثالاً
وأما التعليم في جامع الزيتونة بتونس، فلم يختلف كثيراً، حيث انقسم إلى ثلاث درجات، ابتدائية، ومتوسطة، وعالية.
الابتدائية: تبدأ في المكتب القرآني للخط، والقراءة، والرسم المصحفي، وحفظ متون مثل: المرشد المعين، والآجرومية، وألفية بن مالك، والسلم، وهذا التعليم استمر جارياً على حالة قديمة وصفها ابن خلدون في عهد الدولة الحفصية فيما ذكره من كلامه. وبعد ختم القرآن ينتقل التلميذ إلى الجامع الأعظم (جامع الزيتونة بتونس العاصمة) فيقرأ ثلاث سنين يدرس فيها: النحو، الفقه، التجويد، المنطق، مبادئ البيان، والحساب.
المتوسطة: أربع سنين وعلومها: أصول الفقه، مبادئ البلاغة، آداب البحث، العروض، النحو، الصرف، البلاغة، الفقه، المنطق، علم الكلام، الحساب، والأدب، أما مواد السنة الرابعة فهي: التحقيق للعلوم مع زيادة علوم الحديث والمصطلح، وتسمي هذه السنة سنة التحضير للامتحان، فأكثر الشغل فيها بالمراجعات والتحقيق للمسائل وتوسيع الفكر، وتنتهي هذه الدرجة بنوال شهادة التطويع.
العالية: بعد تحصيل شهادة التطويع، يشتغل المحصل بالتعليم العالي وهو لمن سمت بهم هممهم إلى الرقي العلمي، فيطلب منه إقراء الكتب الابتدائية، ثم يتدرج فيها ويشتغل بقراءة المرتبة العالية، وعلومها: التفسير، الحديث، أصول الفقه، الفقه، البلاغة، النحو، اللغة، الأدب، وعلم الكلام، وليس مشروطاً على مزاول هذه المرتبة الاشتغال بجميعها، بل يكتفى بما تدعوه إليه همته، وخاصة التفسير والحديث، لعدم أو قلة مزاولتها قبل ذلك.
وفيما يتعلق بمنح شهادة التطويع، يقول الشيخ الطاهر بن عاشور: "وكان الإذن بالتصدي للإقراء في القديم بأيدي الأساتذة القائمين بتعليم العلوم بالجامع الأعظم، فكان كل واحد منهم يهب –من تلوح له بوارق قدرته على التدريس– منحة التدريس التطويعي بالجامع لما يشاء من الكتب، مبتدئاً بالأصغر متدرجاً بعد ختمه إلى ما فوق".
وكما نرى، فشهادة التطويع في جامع الزيتونة بتونس مماثلة لنظام الإجازة العلمية في الجامع الأزهر بمصر.
*ميدل ايست أون لاين