(1)
"من الديس الشرقية إلى الكويت" تلك هي الجملة النمطية الأولى بعد البسملة في مراسلات أسبوعية، تحمل خفقات القلوب الواجفة الوامقة، والمشاعر الدافقة، والبشائر، والمشاعر، والمماحكات العائلية اليومية بين زوجة وخالة، أو بين زوجتي شقيقين، أو بين عم وزوجة ابن مسافر، غالباً على شكليات هي ملح الحياة، ومحاولة لإملاء الفراغ الذي لا يتلاشى إلا بعودة المسافر، محملاً بهدايا وإمكانيات مادية توسع على أهله في معاشهم ومأكلهم ومتطلباتهم، وما يغدقه عليهم من حنان ومحبة يفتقدون إلى رذاذهما في سنوات الغياب والحرمان.
كان فضاء العالم في وعي ذوي المغتربين ممدوداً جغرافياً من الديس الشرقية إلى الكويت حصراً، حتى ليخيل للمرء أن الديس الشرقية ليست بلدةً من بلدات مديرية الشحر (أو المديرية الشرقية) حينئذ، ولكنها بموازاة كيان دولي، إذ ليس في تركيب الجملة ما يشير إلى سوى ذلك، وهي جملة تعني لدى متداوليها، فيما أظن، معنى خاصاً يحيل إلى خصوصية العلاقة بين المكان المرسلة منه الرسالة، والمكان المرسلة إليه، على أن للتفصيل في هذا السياق مجالاً آخر.
(2)
مسار الفضاء الجغرافي من الديس الشرقية إلى الكويت، ومن الكويت إلى الديس الشرقية، يبدأ كما ينتهي من وإلى دكان في قلب السوق القديم، على تماس مع المسجد الجامع، فكأنما هو بجغرافيته ملتقى الاتجاهات. إنه دكان العم حاج جوبح، الذي لم يكن مجرد دكان لبيع المواد الغذائية كالدكاكين الأخرى المحاذية له أو الموازية، ولكنه كان مكتباً شعبياً للبريد، يؤدي وظيفة اجتماعية طوعية نادرة، وكان أبو فرج– متعه الله بالصحة- يقرأ الأسماء المدونة على المظاريف وعيناه تشرقان بهجة وصوته دافق بالمحبة، وكانت الأعناق المشتاقة تشرئب إليه، كأنها تنتظر سماع اسمها للفوز بمسابقة أو جائزة ما. ولم يكن دور دكان جوبح يقف عند مستوى البريد الشعبي، بل كان يؤدي، مجانياً، دور (Western union) أيضاً، إذ تصل إليه تحويلات المغتربين التي يضمن توصيل شيكاتها إلى المرسلة إليهم، مؤدياً الأمانات إلى أصحابها الذين يعرفهم فرداً فرداً.
وكان العم حاج أمينَ سرٍّ شعبياً، ويحظى بثقة عالية من قبل المسافرين وأهليهم، وكانت الإطلالة المنتظمة أو المتراوحة على دكانه إطلالة على مواعيد بهيجة، فقد كان يعلم من سيصل في الأسبوع القادم، ومتى سيصل فلان، ولماذا أجّل فلان موعد عودته، ومن سيسافر بعد أيام، وكانت الرسائل الخطية، والهدايا تودع لديه، ما كان منها مرسلاً من الكويت، وما كان مرسلاً إليها، إن تعذر لقاء المرسل بالمسافر مباشرة، كأن يكون المرسل فتى أو طفلاً أو امرأة أو عجوزاً، وكان دكان العم حاج ملتقى شعبياً كثيراً ما يزف البشائر، ويرفع المعنويات، ويؤمّن للعائلات صلة حميمة إرسالاً واستقبالاً، قبل ثورة الاتصالات وتقنياتها المذهلة السرعة، بالصوت والصورة، في زمن الهواتف الذكية واللاب توب، وخصائص ومزايا الهوتميل، والياهو، والجي ميل، والفيسبوك، والتانجو، والفايبر، والواتس آب، وغيرها مما علمنا وما لم نعلم.
(3)
"من الديس الشرقية إلى الكويت" ليست هي الجملة النمطية الأولى بعد البسملة في المراسلات الأسبوعية فحسب، ولكنها كانت مساراً للكثيرين، ممن ضاقت بهم سبل العيش وفُرَصه الجيدة في الوطن، فآثروا السفر بديلاً لتحقيق الحلم في الوظيفة والعيش الكريم، إذ كان الخط الجوي عبر مطار الريان مفتوحاً بين الديس الشرقية الكويت، وكانت الكويت أقرب إلى الديس من كثير من بلدات الوطن ومناطقه، إلى درجة أن بعض الأسماك في أفضل مواسمها ولا سيما العيد (السردين) كانت تدهر في (تنانير) الديس لتصل، طازجةً خلال سويعات، بالطائرة المنطلقة من الريان إلى الكويت، إلى من يشتعل فيهم الحنين إلى تذوق (دهرة) الوالدة أو الزوجة أو الكريمة.
"من الديس الشرقية إلى الكويت" جملة مفتاحية، لتجليات الشجن والألم والبهجة والفرح، ولاشتعال الحياة في الدماء، وتجمّدها في الشرايين، بحسب الحال التي يكون فيها انفتاح الأفق أو انغلاقه، بين الديس الشرقية والكويت، والعكس.
تلك الجملة المفتاحية هي عنوانُ سِفر أسفار الرواية الحية التي لم يكن في خلَد أحد من أبطالها أن تكون النهاية مفتوحة على مصائر حزينة، إذ كانوا على قدر جمعي باغتهم فإذا هم يغادرون الكويت بما خف وزنه، ويا روح ما بعدك روح، ليس حزناً على فقد مصدر الرزق وحده، وإنما لفراق الديرة التي احتضنتهم كأنها ديرتهم الأولى، حيث لا يشعر المرء منهم بالغربة التي يعانيها غيرهم في بلدان أخرى.
"من الديس الشرقية إلى الكويت" جملة تبدو لي عنواناً لرواية قد يخرجها كاتب ما، ذات يومٍ، للناس، مقدماً تجربة جديرة بالكتابة، جديرة بالقراءة، جديرة بإنعاش الذاكرة والمتخيل الواقعي والسردي في آنٍ معاً، الممتد في الوجدان الجمعي "من الديس الشرقية إلى الكويت".
.............................................................................................................
*عن العدد الأخير من (خُلفة) – أكتوبر 2014م، الصادرة عن جمعية التراث والآثار بالديس الشرقية – حضرموت.