نتنياهو يطرد أردوغان من سوريا

2025-09-19 18:54

 

في بدايات الأزمة السورية (11 آذار 2011)، وكانت مبرمجة إقليمياً ودولياً، دعا رجل دين بقاعي في خطبة الجمعة، رجب طيب أردوغان للدخول إلى دمشق "غازياً أو فاتحاً"، باعتباره خليفة للمسلمين، تماماً كما فتح القسطنطينية السلطان محمد الثاني، كما لو أن العثمانيين لم يسبقونا خارج الزمن لمدة أربعة قرون.

 

لا شك أن تجربة العرب مع الأوروبيين، والآن مع الأميركيين، مريرة بل وكارثية. ذات مرة قال لي الإمام محمد مهدي شمس الدين، وهو الفقيه الفذ ذو الرؤية بعيدة المدى، إن أكبر نكبة ألمت بالعرب هي سقوط السلطنة العثمانية، ما أحدث ضجة آنذاك، إذا ما استذكرنا رسالة السلطان عبد الحميد الثاني إلى شيخ الطريقة الشاذلية محمود أبي الشامات، وفيها أن سبب خلعه يعود إلى "إصرار الاتحاديين بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأراضي المقدسة"، و"لقد رفضت أن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي".

 

أردوغان أراد الدخول إلى السلطة من البوابة الأيديولوجية والبوابة التاريخية. الدليل أنه في عام 1997، وفي ميدان عام في ولاية سيرت، استعاد أبياتاً للشاعر التركي ضياء غوقلب، وكان ذلك السبب في اعتقاله: "مساجدنا ثكناتنا... قبابنا خوذاتنا... مآذننا حرابنا... المؤمنون جنودنا"، متأثراً بالنظرية القومية لرفيقه أحمد داود أوغلو الذي ما لبث أن ابتعد عنه، حول إقامة "النيوعثمانية" التي اعتمدت على "الإخوان المسلمين"، وقد عرفوا بتأجير ظهورهم، أو بيعها، لتشكيل "النيو إنكشارية".

 

والواقع أنها اللوثة النرجسية التي لازمت الرجل الذي ما زال يتطلع إلى لقب "السلطان"، باستعادة السلطنة. هكذا دعم استيلاء الجماعة على السلطة في مصر بطريقة لصوص ما بعد منتصف الليل، على أن يستولي أيضاً على سوريا، بفتح أبوابه أمام تلك الحثالة الآتية من أقاصي الجحيم، حتى إذا ما استتبت له الأمور في البلدين أمكنه وضع اليد على كل العالم العربي، دون أن يتنبه إلى الأحزمة الحمراء التي أحاطت بها القوى العظمى بتركيا في الاتفاقات التي عقدت إبان أو غداة الحرب العالمية الأولى.

 

في 8 كانون الأول الفائت دخل إلى سوريا عن طريق أميركا وإسرائيل وحتى روسيا. وكان هذا رهانه على التمدد في المشرق العربي، أي إلى حقول النفط التي تساعده على إقامة "تركيا العظمى"، وهو موجود عسكرياً في قطر، على أن ينتقل إلى المغرب العربي بوجوده عسكرياً في ليبيا، ودون أي وجود لمصر، وهو المستغرب، بغياب أي دور جيوسياسي أو جيوستراتيجي، حتى في ليبيا التي تتفتت، وفي السودان الذي يحترق، وحتى في غزة التي تذبح والتي تدمر والتي تباد.

 

الآن يكثر الضجيج التركي والأوروبي حول احتمال نشوب الحرب بين تركيا وإسرائيل التي لا تستطيع أن تتحمل دولة فاعلة بتكنولوجيا عسكرية متطورة (وإلى حد صناعة طائرة شبحية وبناء حاملة للطائرات)، وبخلفية إمبراطورية، حتى أن هناك باحثين إسرائيليين يرون أن تركيا أشد خطراً من إيران.

 

رهان أردوغان على التعاون مع نتنياهو في إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط كان رهاناً عبثياً. الأول يريد أن تكون سوريا نقطة انطلاق في أكثر من اتجاه، لا سيما في اتجاه حقول الغاز شرق وجنوب المتوسط، والثاني يبتغي تفكيك سوريا إلى دويلات طائفية وإثنية، وتدار من تل أبيب، وهذا حلم قديم لاحتواء "ذئاب الشمال". ماذا عن دمشق التي قال سفر إشعيا إنها "تزول من بين المدن وتصبح ركاماً من الأنقاض"؟

 

رئيس الحكومة الإسرائيلية حال دون أردوغان وغزو أو فتح دمشق. الدبابات الإسرائيلية لا التركية على أبواب المدينة، دون أي ردة فعل من أنقرة. على كل ماذا فعل أردوغان لغزة، ولحركة "حماس" التي تنتمي إلى "الإخوان المسلمين". التنديد عن بعد، وإبقاء العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل على حالها حتى الأسابيع الأخيرة، دون قطع العلاقات الدبلوماسية.

 

الرئيس التركي كان يعد لبيع جلد أحمد الشرع إلى بنيامين نتنياهو، فاجأه بأنه يريد بيع جلده هو بإعلانه أنه في "مهمة روحية" تتوخى إقامة "إسرائيل الكبرى" على أرض فلسطين وسوريا ولبنان والعراق، وصولاً إلى مصر، على أن تقتطع أيضاً أجزاء من تركيا.

 

الصحافي التركي كمال أووتورك، وكان مستشاراً لأردوغان، كتب منذ أيام أن إسرائيل لم تعد تتحرك وفقاً لمقتضيات "الواقعية السياسية"، وإنما وفقاً لـ "اللاهوت السياسي" (THEOPOLITICS)، وهي ترى "في أي قاعدة عسكرية تركية داخل سوريا، أو أي دعم عسكري تركي للجيش السوري، أو حتى في أي جهد عسكري تركي لتدريب القوات السورية، تهديداً مباشراً لأمنها القومي، ولهذا فهي مستعدة لأن تفعل كل ما يلزم لمنع أي وجود عسكري تركي داخل سوريا".

 

باختصار، طرد أردوغان من سوريا، وبعدما راح "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" التابع للوبي اليهودي يحذر من "البارانويا العثمانية"، ومن إمكانية زحف الجيش التركي إلى حدود الدولة العبرية. لكن الرجل الذي يعرف ما يمكن أن تفعله الرؤوس النووية الإسرائيلية، وكذلك أين هي هذه الدولة في الأجندة الأميركية، لن يقدم على أي خطوة تفضي إلى الصدام العسكري، ليبقى على دبلوماسية الثعبان، وعلى استراتيجية الثعبان. دائماً التسلل عبر نقاط الضعف لا عبر نقاط القوة.