خذ لك من الريح قبضة

2024-11-02 13:42

 

فمن ذا الذي يستطيع القبض على الريح

فجر اليوم وأنا أمارس رياضة المشي هزت الريح التي جعل ذاكرتي تستعيد تلك الحكمة الشعبية (خذ لك من الريح قبضة) حكمة بالغة الدلالة والتعبير عن معنى الكذب والتزوير. إذ أتذكر حينما كنت طفلا بأن أبي رحمة الله عليه كان يرددها دائما لا سيما حينما يمر به شخص من الاشخاص الذين لا يثق بهم أبدا. كان يستمع اليهم وهم يتحدثون عن احترامهم وتقديرهم له ويحذرونه من اشخاص آخرين ويدعونهم دافعوا عليه عندهم- طبعا كان ذلك في منتصف سبعينيات القرن الماضي؛ زمن القبضة الحديدة والتقارير السرية والسكاكين الطويلة- كنت حينها في سن المراهقة المبكرة في لحظة تفتح الذات والرغبة في الفهم والإدراك. 

 

كانت تشدني مواقف أبي ومحادثاته من الاشخاص الذين في عمره وهو يعرفهم حق المعرفة. بحكم كونه تاجرا في مجتمع محلي شديد الفقر والحرمان كان معظم الناس ينشدون مودته لغرض بيعهم ديِنا لضيق ذات اليد. وكان بعضهم لا سيما من الخبثاء والحساد يتظاهرون بالغناء الكاذب ويأتون إلى أبي للمقيل ويحدثونه عن بطولاتهم ومشاريعهم ومداخلهم وكرمهم مع أهلهم ومع غيرهم وهو يستمع اليهم والابتسامة لم تفارق شفتيه لأنه يعرفهم حق المعرفة وحينما ينصرفون كان يردد تلك العبارة ( خذ لك من الريح قبضة!) بمعنى إن كل ما سمعته كان كذبا بواحا ولا اساس له من الصحة. 

ربما مررت بتجارب مماثلة كثيرة في حياتي هي التي رسخت تلك الحكمة البليغة في ذاكرتي منذ الطفولة وجعلها جاهزة للاستدعاء كما تستدعي بعض المواقف والخبرات التي نمر بها في نهارات أيامنا ثيمات أحلامنا فنحن لا نحلم إلا بالأشياء التي مرت بحياتنا بتحفيز من موقف أو ذكرى أو كلام . 

 

وقد لاحظت إن الكذب في حياة الناس أكثر بكثير من الصدق وقد استوقفتني هذه الظاهرة منذ دخولي الجامعة وأنا أبذل المحاولة للعثور عن جواب للسؤال البسيط الذي هو: لماذا الناس يكذبون؟ وما الذي يجعلون يتجرؤون على قول الكذب؟ دون الخوف من الله ولا يستحون من الناس ولا يخجلون من أنفسهم؟ ربما هنا أسباب عميقة لهذا السلوك أعمق بكثير من التربية والأخلاق. إذ وجدت أن بعض الذين يكذبون ليسوا سيئو التربية بل على كانوا على خلق رفيع وأشخاص محترمين وأبناء عائلات محترمة. فكيف يمكن تفسر هذه الظاهرة التي حيرتني؟ انطلاقا من السؤال العلمي : لماذا يفعل الناس ما يفعلونه؟ ويقول ما يقولونه؟ ويحبون ما يحبونه؟ ويفضلون ما يفضلونه؟ ويعتقدون فيما يعتقدونه؟ ذلك هو سؤال العلم المعني بالكشف عن حقيقة الظاهرة الاجتماعية، إذ لا قيمة ولا فائدة من أدانة الكذب ولوم أصحابه وقد وجدت بعد كل حساب إن طبعية الثقافية العربية الإسلامية في بنيتها التكوينية تنطوي على الكذب والتزوير وذلك بسبب الفقر والحرمان وخبرة غياب الصدق واليقين في حياة الناس الواقعية فلا شيء يمكن الوثوق به والتيقن منها في واقع الإنسان العربي المادي المشاهد الملموس. بل أن طلب الصدق والحق واليقين لا يمكن تحقيقه في عالم الناس المرئي بل هو في عالم الغيب والشهادة حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت وليس كمثله شيء! وكم هم اولئك الاشخاص الذين يكذبون باسم الله والآخرة بغرض تحقيق مصالح دنيوية هذا اولا وثانيا ربما كان سبب الكذب عند الكثير من الاشخاص الذين لا تبدو عليهم سوء التربية يعود إلى ضعف الشخصية وعدم قدرتهم على قول كلمة ( لا) آسف، أعتذر، ليس بمقدوري ، لن أتمكن .الخ من الكلمات والمواقف البديلة عن الكذب المقيت فكثير للمرء إن يصرخ في وجه شبيهه على أن يوعده كذبا. وربما كان شيوع الكذب في المجتمعات العربية والإسلامية بنسب متفاوتة بسبب التربية التسلطية والسلطة الاستبدادية وربما يضطر بعض الناس إلى الكذب بدافع الرغبة في الوفاء والعجز عنه بسبب الفقر والحرمان وضيق ذات اليد والظروف القاهرة التي لا تبيح له الوفاء بوعودهم. وهناك أنماط مختلفة من الكذب والتزوير لا تعد ولا تحصى ومن مفارقة القدر إن

تجد إن المواطنين الذين ينتمون إلى دولة علمانية محترمة لا يعرفون الكذب أبدا. وعندما يكذب رجل الدين والسياسي والزعيم والمعلم وأولياء الأمور؟ فماذا تتوقع أن يكون حال المجتمع والناس على دين ملوكهم! واليكم الفكرة:

 

يعد الكذب والتزوير من أخطر القيم التي تصيب الحياة الاجتماعية بالفساد وتهدد سلامة النظام الاجتماعي بالخراب . وبين الكذب والتزوير تشابه كبير في الشكل والبنية وفي المنطلقات والمقاصد فالتزوير يأتي بمعنى الخداع او الغش والتلاعب من أجل تغيير حقيقة شي ما أو صنع ما يشبهه كإنتاج منتجا لماركة أو طباعة ورق نقدية مزورة مشابهة للنقود الأصلية والهدف هو التحايل على الآخرين ،ومن مظاهر التزوير مايقوم به الاشخاص من عمل يتنافى مع الأخلاق الحميدة كإنتحال شخصية بصفه غير مشروعة أو استبدال ورق مكان ورق آخر كالشهادات والوثائق الرسمية من أجل إثبات صحة اوراق هي في الأساس غير قانونية .

 

الكذب شديد الشبه بالتزوير إذ يكون إما بتزييف الحقائق جزئيا أو كليا واختلاق غيرها أو صياغة روايات وأحداث مختلقة لا تمت للحقيقة بصلة، بنية وقصد الخداع لتحقيق غايات واهداف مقصودة ويقترن الكذب مثله مثل التزوير بعدد من الجرائم الشائعة كالغش والنصب والسرقة والمكر والخيانة والخداع وقد يقترن ببعض المهن أو الادوار مثل السياسة والدبلوماسية أو الحرب النفسية الإعلامية ..الخ. ويأتي الكذب في مقدمة كل القيم الأخلاقية السئة وهو من يوفر الشرط المسبق للتزوير والغش والخداع وفِي الفلسفة الأخلاقية يعد الكذب سيء، لأن الصدق عموماً هو الجيد إذ لو كذب الجميع في كل ما يقولونه، لاصبحت الحياة صعبةً بشكل كارثيّ، فلن نثق عندها بأيّ أحد، ولن نصدق شيئاً مما نسمع، وسيتوجب علينا العمل على إدراك وتوثيق كل ما يحيط بنا، كما أن الحياة بشكلها هذا لن تكون موضع اهتمام الكاذبين! فما فائدة الكذب إن كان الجميع يكذب؟ الكذب سيء، لأنّه مبني على أساس معاملة من يحيط بنا على أنهم وسيلة لتحقيق غاياتنا، ولن تكون غاية وسيلتها استغلال الأخرين أمراً جيّداً.الكذب سيء، لأنه وتبعاً لكل الديانات السماويّة والوضعيّة ولكل واضعي القواعد الأخلاقيّة يسيء إلى الهبة العظيمة المعطاة للبشر ألا وهي الثقة التي تعززالتواصل فيما بينهم. إذ أن تخاطب الإنسان مع الإنسان يندرج في إطار عقدٍ اجتماعيّ محدّد الشروط، وأهم ما يندرج ضمن بنود هذا العقد هو أن من يتحدّث يجب ألّا يكذب. وبذلك ينطوي الكذب على مفارقة منطقية وتناقض داخلي في بنيته الجوهرية . إذ إن الكذاب ينطلق من قاعدة إن الناس على وجه العموم لايكذبون بل يصدقون ما يقال لهم لانهم يعتبرون الكذب مذموم! وهو بذلك يناقض ذاته وكذلك هو الموقف عند مزور العملة يعلم مسبقا إن الآخرين لايزورون العملات، بل يمنحونها ثقتهم في تعاملاتهم النقدية المالية ,ومن هنا تكتسب العملة المزورة قيمتها الوحيدة! فاذا كان كل الناس يزورون العملات فلا معنى ولا قيمة للتزوير أصلاً. وهكذا يحرص الكذاب والمزور حرصا شديدا على ترسيخ قيمة الصدق والثقة والأمانة عند الآخرين من زبائنهم الفعليين والمفترضين. واتذكر أنني ذات يوم وقعت في فخ الكذب ضحية نصاب سيارات شهير في عدن يدعى باحكيم حيث كلمني بلغة الدين والأمانة والحساب والعقاب فصدقته ووثقت بها وفِي ظرف ساعتين عرفت أنه نصب عليّ والحكاية طويلة ويعرفها المستشار القانوني الشهير في دولة الامارات العزيز أمين محسن المحبشي الذين علمني بإن القانون لا يحمي المغفلين يحفظه ارحم الراحمين. وهكذا يمكن القول في الختام إن الكذب والتزوير من أقبح القيم الأخلاقية في جميع الثقافات وعند مختلف الشعوب لإنها تقع على الطرف النقيض من القاعدة الأخلاقية العادلة الإنسانية التي تقول: عامل الناس كما تود أن يعاملوك أو عامل أشباهك من الناس كغايات عالية القيمة والتقدير لا سائل وأدوات لتحقيق غاياتك الذاتية السيئة.

وبهذا جاءت دعوة الفيلسوف الألماني انماوئيل كانط في كتابيه :أسس ميتافيزيقا الأخلاق، وفي نقد ملكة الحكم ، أو نقد العقل العملي. دعوته الى قواعد الواجب والأمر الأخلاقي العقلاني المشروطة بالحرية الفردية التي تستوجب حرية الارادة وقدرتها على الأختيار بين المواقف والاحكام القيمية الممكنة. والقواعد الأخلاقية الاساسية هي اولاً: أعمل دائما بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونا كليا للإنسانية.

ثانياً: اعمل دائما بحيث يكون تعامل الإنسانية في شخصك وفي الأشخاص الآخرين كغاية إنسانية عامة لا كمجرد وسيلة لتحقيق غاية شخصية.

ثالثاً: اعمل دائما بحيث تكون إرادتك- باعتبارك كائنا عاقلاً ذي ضمير حر - متوافقة مع مقتضيات العقل في تحمل المسؤولية .وهناك فرق بين أخلاق النية وأخلاق الفعل وحينما تسود حرية الإرادة والقدرة على الاختيار تكون المسؤولية الأخلاقية جديرة بالقيمة والاعتبار. والعكس صحيح وهذا موضوع إشكالي في الفكر الأخلاقي العربي الإسلامي يطول شرحه.

 

رحمة الله عليك يا أبي الذي علمتني الصدق مع ذاتي ومع الآخرين وحينما يكذب عليا أحد افقد به الثقة إلى الأبد. وخذ لك من الريح قبضة!

ومن تصبّح بالكذب ما تعشى به! فمن ذا الذي يستطيع القبض على ال

ريح ؟ هل حدثت لكم مواقف وتجارب مماثلة مع الكذب ودوائره؟!