يتواصل الحديث عن التسوية المزمعة للأزمة اليمنية وتنسج خيوط هذه التسوية وراء كواليس المفاوضات شبه السرية التي يتكتم عن تفاصيلها السياسيون لكن نشطاء التواصل الاجتماعي لا ييأسون في البحث عن بعض هذه التفاصيل ولو على سبيل التخمين أو التقاط الممكن منها عبر التسريبات غير الرسمية.
في تناولة سابقة لكاتب هذه السطور بعنوان "البشارة الجديدة القادمة من الرياض" كنا قد تعرضنا لمختلف المبادرات التي تمت منذ العام 2015م حتى اليوم ممثلة بلقاءت ومشاورات واتفاقات الرياض الثلاث، وكيف أنها جميعاً لم تثمر سوى عن الانتصار التاريخي الذي حققه الجنوبيون في تحرير محافظاتهم من قوات التحالف الانقلابي (الحوثي-العفاشي) خلال أقل من مائة يوم، بتلاحم قوات المقاومة الجنوبية مع مجهودات ودعم الأشقاء في التحالف العربي، وكانت النتيجة المبهرة التي لم يتوقعها حتى أكثر المتفائلين في دحر الجماعة الانقلابية من أرض الجنوب، في حين سلم "الجيش الوطني" كل المحافظات الشمالية الواقعة تحت سيطرته لأشقائه الحوثيين دونما مقاومة تذكر سوى مقاومة بعض القبائل في مناطق البيضاء ومأرب والجوف وحجور وعتمه وبعض مديريات الساحل الغربي في الحديدة وتعز، والتي انتهت في معظمها بانتصار الحوثيين، واستكمال هيمنتهم على أكثر من 95% من مساحة الجمهورية العربية اليمنية (السابقة)، مما حدا بالأشقاء السعوديين، وبعد ثماني سنوات من مناصرة الشرعية وتحمل خيباتها، إلى البحث عن حلول مع القوة المسيطرة فعلياً على الأرض (الحوثيين)، بدلاً من الرهان على شرعية لا تجيد سوى استلام المعونات المادية (العسكرية والغذائية واللوجستية) وتسخيرها للإثراء والفساد والإفساد وشراء الذمم والولاءات، وبيع بعضها للحوثيين بجانب بيع المديريات والمحافظات والمعسكرات ومخازنها، وتهريب الأسلحة لهذه الجماعة التي ظل هذا (الجيش) يحاربها نهاراً بالإعلام، ويتعاون معها ليلاً ونهاراً بتهريب كل ما كانت تحتاجه قبل رفع الحصار عنها.
بعيداً عن هذه التفاصيل المهمة نعود إلى موضوع الأزمة اليمنية ومحاولات البحث عن حلول عملية مأمولة تستأصل جذر المشكلة وتراعي مصالح اليمنيين وليس مصالح الطبقات المهيمنة التي لولاها لما وصلت اليمن إلى هذا الدرك الأسفل من مستوى الحياة الآدمية الأقرب إلى حياة ما قبل التاريخ.
في ضوء المنشور السابق تلقيت عشرات التعليقات، منها ما يلعن مفهوم "البشارات" ومنها من يتذمر من التوقعات ولتسريبات المتداولة ومنها من يدعو إلى إنها الحرب والأزمة بأي ثمن بحجة "إننا سئمنا الحروب ووصلنا بسببها إلى أسوأ مستويات الحياة في العالم أجمع".
أحد الظرفاء قال في تعليقه: إن الرعاة العرب للأزمة في اليمن، في بحثهم عن حل للأزمة اليمنية، يعملون مثل الخياط الذي يفصل البدلة دون أن يأخذ مقاسات الزبون ولا حتى يقابله، وعندما تكون البدلة غير مطابقة لتلك المقاسات، يرميها الخياط ويستبدلها بأخرى ولكن مرةً أخرى دون أخذ المقاسات، وهكذا عدة مرات والبدلة ترمى في برميل القمامة والزبون ينتظر البدلة الصالحة والمناسبة، لكنها لم تأتِ ويبدو أنها لن تأتي طالما أصر الخياط على أن تخميناته العشوائية هي الصائبة، وليس القياسات الواقعية المأخوذة من معطيات واقع الزبون وطوله وعرضه ورغباته وميوله ومصلحته.
عودٌ على بدء:
لا ينكر أحدٌ أن الجمهوريتين اللتين اتحدتا في العام 1990م من خلال صفقة مستعجلة وعشوائية وغير مدروسة، كانتا غير مستقرتين، مع الإقرار بالتفاوت الكبير بين أهلية النظامين الحاكمين بتوفر مقومات الدولة والقيام بوظائفها في تطبيق القانون وبناء المؤسسات وتوفير الخدمات المجانية الضرورية لحياة المواطنين وتكريس مصالحهم، أقول إن أحداً لا ينكر ذلك، لكن الجمهوريتين لم تشهدا ضعفاً ولا انهياراً وتفككاً وتشظياً مثلما شهدته الجمهورية (الموحدة افتراضياً) بعد العام 1994م عندما اغتر المنتصرون واعتقدوا أن التاريخ قد توقف عند يوم انتصارهم، وظنوا أن انتصارهم (الموهوم) أزليٌ ولن يغيِّره مغيِّرٌ، ونسوا أن للتاريخ مكره وللجغرافيا ثأرها الكامن وراء سراب الانتصار الوهمي، ومن المرجَّح أن الانتصار الموهوم هو ما استدعى كل هذه الانحدارات المتوالية التي أوصلت البلاد إلى اندلاع ثورة الحراك السلمي الجنوبية، وثورة الشباب السلمية في صنعاء وتعز وغيرها من محافظات الشمال، وكل ما جرى بعد ذلك ليس سوى تداعيات حتمية لما تلى انفجار فقاعة وهم 7/7 الكبير.
فثورة الجنوبيين السلمية ومطالبتهم باستعادة دولتهم، وصراع أجنحة انتصار 7/7 ثم اندلاع ثورة 2011م وهيمنة الأحزاب السياسية عليها وتحويلها إلى صفقة سياسية، وتقاسم الكعكة النيئة، غير المطبوخة جيداً، ثم تشكيل حكومة الوفاق غير المتوافقة وما تلاها من انقلاب وحرب، وانهيار سلطة الشرعية (الهشة)، وما ترتب على هذا من تداعيات، كل ذلك لم يكن ليحصل لولا حرب 1994م وغزو الجنوب وإسقاط دولته والعبث بتاريخه وهويته وثروته وأرضه وثقافته وكل ما يتصل بكينونته الوطنية والتاريخية، كل ذلك هو ما يختزله الجنوبيون في عبارة مركزة ودقيقة وهي "القضية الجنوبية".
لا يرغب الأشقاء الشماليون (شرعية وحوثيون) بالاعتراف بهذه الحقيقة، حتى والشرعيون في حالة نزوح مُزْمِن، ونحن لا نلومهم على هذا لأن ذلك هو عنوان الصراع الأبدي بينهم وبين الجنوبيين، لكن المؤسف هو إن الأشقاء رعاة الأزمة اليمنية، أيضاً لا يقرون بهذه الحقيقة ولا يرغبون في النظر إلى الجنوب إلا على إنه طرف مشاغب يريد تفكيك اليمن وتقسيمه، وكأن اليمن لم يتفكك بعد، أو كأن شظاياه المتناثرة قابلة لإعادة التجميع، بعد كل هذا الخراب والدمار المادي والنفسي والثقافي وبعد كل التمزيق الذي تعرض له النسيج الاجتماعي في الدولتين المتحدتين (وهمياً) في العام 1990م.
فشل الخياط في تفصيل البدلة المناسبة وفقا للقياسات الدقيقة يكمن في هذه النقطة المفصلية وهو ما يفترض أن يدفعه إلى الذهاب باتجاه الواقع والوقائع وعدم الاكتفاء بتصوره لشكل وطول وغرض وارتفاع صاحب البدلة دون أن يراه عياناً، فالجذر الأساسي لكل المشكلات في بلاد الدولتين السابقتين يكمن في فشل محاولة الاتحاد وانفراد طرف من شركاء الوحدة (المفترضة) وإقصاء الطرف الآخر وما ترتب على هذا من جرائم تدخل ضمن جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان ، أما أزمة الانقلاب والشرعية فهي قضية مألوفة في الجمهورية العربية اليمنية منذ 1962م، فقد جرى الانقلاب ضد الرئيس السلال، أول رئيس جمهورية في اليمن ثم جرى الانقلاب على الرئيس الإرياني الذي ورث السلال، فانقلب الحمدي على سلفة وانقلب الغشمي وعلي عبد الله صالح على الجميع، وبقيت الجمهورية وسارت الحياة بشكلها الطبيعي على مقاسات الجمهورية العربية اليمنية، بل إن هناك من يصنف ثورة 26 سبتمبر على إنها انقلاب مثلها مثل انقلاب الثلايا 1956 وانقلاب 1948م لكنها نجحت في إسقاط الملكية وإعلان الجمهورية، فما كان انقلاب 2014م سوى إعادة لعجلة التاريخ وانتصار أحفاد الملكية على ورثة الجمهورية، (وهذا موضوع يطول الحديث فيه).
وباختصار شديد فإن أي تسوية للأزمة الراهنة في اليمن، والتي فجرها صراع منتصري 1994م لا يمكن أن يكتب له النجاح ما لم ينطلق من حقيقة إن القضية الجنوبية هي مفتاح المشكلة ومفتاح حلها، وإن للشعب الجنوبي استحقاقاً لا بد من نيله بعد أن دفع هذا الشعب ضريبته مضاعفةً من خلال عذابات ثلاثة عقود من الحرمان والتهميش والتدمير والنهب والسلب، وبعد عشرات الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الجرحى والمعوقين.
إن القيادة الجنوبية اليوم أمام تحدي جاد ومصيري، وحالة اليوم تختلف عن كل المراحل السابقة، فلا مجال فيها للمساومة وأنصاف الحلول أو الابتزاز والتهديد والوعيد، وهو ما يقتضي أن تكون هذه القيادة صريحةً وواضحة مع الشركاء من الأشقاء والأصدقاء، بأن الشعب الجنوبي قد تحمل ما لم يتحمله شعب في العالم وأنه لم يعد لديه متسعٌ للصبر والانتظار بعد أن خسر كل شيء مقابل لا شيء سوى انتظار ما لا يأتي.
إن لعبة تأجيل القضية الجنوبية إلى ما بعد اتفاق الأشقاء الشماليين لم تعد قابلة للتعاطي، وإن الجنوبيين ليسوا مضطرين إلى تحمل المزيد من العذابات حتى يفيق رشاد العليمي ومعين عبد الملك ومحمد اليدومي ورفاقهم من سباتهم ويتجهوا لتحرير أرضهم، فإما الإعلان العاجل للحل الفوري للقضية الجنوبية، وإما الاعتراف بأن المستقبل هو للمشروع الحوثي وحينها سيجد الجنوبيون طريقة لاستعادة دولتهم مثلما استعادوا أرضهم في العام 2015م.
وللحديث بقية