أهوَ إلحادٌ أم إنه البحث عن الحقيقة؟

2013-05-28 11:35

الحمد لله..

 

"أمّة تتجمد دماء البحث عن الحقيقة فى عروقها لا يمكن أن تنهض"

كثُر الحديث هذه الأيام عما يُسمّى بـ«ظاهرة الإلحاد»، وكثر الجدل حولها من نواحٍ عديدة، فتارة تُطرح من باب الدعوة إليه أو التحذير منه، وتارة من باب الثقة بأنه القادم المحتوم أو القلق من كونه الإشكال الخطير، وتارة من باب السرور بأنه الـمُخلّص أو الغضب من كونه الكفر الوقح.

 

لكن الخاطرة اليوم حول ملمح مختلف بعض الشىء، ألا وهو أن الضجيج القائم حول هذه الظاهرة ومختلف التفاعلات معها قد غيَّب عن الأذهان جانباً مشرقاً فيها! نعم جانب مشرق فلا تتعجل أخى القارئ المتدين.

 

والجانب المشرق هنا هو ضخ دماء جديدة للبحث عن الحقيقة فى مجتمعنا الذى جَمُدت الدماء فى عروقه، وأصبح مرتبكاً أمام فوضى التنازع على الرغبات، والركون غير المتبصر إلى الموروث، والملل القاتل من المعتاد، واللامبالاة المقلقة تجاه كل ما هو مهم، والتخبط فى ترتيب الأولويات، والتهافت البغيض على التسلُّط بأنواعه (الدينى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى)، والغضب المتفجر من الواقع.

 

وأمّة تتجمد دماء البحث عن الحقيقة فى عروقها لا يمكن أن تنهض وإن أحرزت صوراً من التقدم المادى أو مظاهر من الحريات الفردية أو الاجتماعية أو السياسية، فضلاً عن أمة ترزح تحت وطأة التخلّف فى مختلف هذه النواحى.

 

لهذا فنحن بحاجة إلى التريُّث فى ردة الفعل تجاه هذه الظاهرة، وينبغى لنا ألا نقع فى فخ الانفعال التلقائى الغاضب، أو الهجوم المتحامل على الشباب، أو التلويح الأحمق بالعقوبات، أو الدعوة الهمجيّة إلى البطش، فكل هذا يوصل رسائل خاطئة مفادها عدم الثقة بقدرة الإسلام على البيان بالحُجّة والبرهان، كما أنه يؤدى إلى نتيجة واحدة وهى زيادة التشويش على أذهان الشباب، ومن ثمّ مزيد من الانتشار لهذه الظاهرة.

 

ولدينا جانبان أساسيان فى تناول هذه الظاهرة:

 

الأول: هو الجزء المتعلق بمسئوليتنا تجاه انتشارها، وهو يتلخص فى تخلف بيت الخطاب الإسلامى عن فريضة التجديد، وتقصيرنا فى بناء قواعد البحث المعرفى لشبابنا، وعجزنا عن تقديم النموذج العملى للحضارة المبنيّة على الإيمان، مع الاكتفاء باجترار الماضى المشرق للحضارة التى شيدها الأسلاف.

 

الثانى: هو الجزء المتعلق بفهم معاناة شبابنا من واقعهم المرير وتفهّم آمالهم وآلامهم، واحترام عقولهم ومشاعرهم، وإعطائهم حقوقهم التى جعلها الله لهم فى أن يخوضوا تجربة البحث الجادّ عن الحقيقة بما فى هذه التجربة من نجاح وإخفاق وصواب وخطأ.

 

وحق الإنسان فى أن يُخطئ هو حق أصيل فى الشريعة؛ سواء كان هذا الخطأ نتاجاً لتجربة البحث الجاد أم كان صادراً عن طبيعة الضعف البشرى.

 

فصاحب الخطأ الناتج عن البحث الجاد عن الحقيقة له أجر كما أخبر المعصوم (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر». رواه البخارى.

 

وفهِمَ العلماء من هذا الحديث أن الجادّ فى محاولته للوصول إلى الصواب، الآخذ بأدوات الاجتهاد، الصادق فى طلب الوصول إلى الحق، له أجر وإن لم يصل إليه، ولهذا قالوا: «كل مجتهدٍ مُصيب»، وقالوا: «الحق واحد لكن الصواب متعدد».

 

كما أن الخطأ الناتج عن الضعف البشرى أيضاً طريق للوصول إلى الحقيقة فى حالة الاعتراف به والسعى نحو تصحيحه، ولهذا شرع الله لنا التوبة، بل جعل تكررها الناتج عن تكرر الخطأ طريقاً إلى نيل محبة الله، قال تعالى: {إنَّ اللهَ يُحبُّ التوّابين ويُحبُّ المُتطهِّرين}، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبادىَ الَّذينَ أَسرَفُوا على أَنفُسِهِمْ لَا تَقنَطُوا مِن رحمةِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إنّهُ هُوَ الغفورُ الرحيم}.

 

بل إنّ الخطأ الناتج عن الضعف البشرى مظهرٌ من مظاهر حكمة الله فى خلقه ورحمته بهم، قال الرحمة المُهداة (صلى الله عليه وآله وسلم): «لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها اللهُ لكم، لجاء اللهُ بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم». رواه مسلم.

 

لهذا فنحن بحاجة إلى الكفِّ عن لغة التعنيف والتهجّم والتهديد التى لا تُجدى نفعاً، لننتقل إلى مرحلة تحمّل المسئولية والاعتراف بالخطأ والعمل الجادّ على الإجابة عن أسئلة الشباب.

 

وأهمس هنا فى أذن الشباب بأن يكونوا جادّين فى طلب الحقيقة أو الصواب، آخذين بأدوات البحث العلمى، صادقين فى التفرقة بين البحث الجادّ والاستسلام للسخط على الواقع، وأن يعملوا بهمّة على التحرر من عبودية الرغبات والشهوات ومزاجيّة الأهواء، كى لا تُشوّش على موضوعية عقولهم الباحثة.

 

وألا يعتدوا على شرف قيمة حرية البحث وحرية التعبير وأخلاقياته، وذلك بتعدّيهم على قيمة أخرى وهى احترام حق المتدين فى ألا تُنتهك معتقداته بالسب والتجريح والسخرية، فهناك فرق بين النقد والسباب.

 

وهذه الهمسة أبثّها أيضاً إلى من كان بحثهم عن صوابية وجود الحقيقة فى معترك النسبية المطلقة وفلسفة الحداثة وما بعد الحداثة.

 

وأتذكّر هنا موقفاً احترمته لشاب اختار الإلحاد؛ حيث رفض العمل على دعوة من حوله إلى اختياره، لأنه يعتبر نفسه فى مرحلة من مراحل التأكّد من صحة هذا الاختيار؛ وذلك بسعيه نحو الوصول إلى الانسجام العقلى والقلبى والنفسى مع اختياره، والتأكد من أنه قد تخلّص فى اختياره من تأثير ردة الفعل تجاه الواقع الذى نعيشه، وذلك بسبب شعوره بالمسئولية تجاه الآخرين، ورجوت أن يكون هذا حال كثير من المتدينين المعاصرين تجاه من يحيط بهم.

 

وأخيراً..

 

إن ما توصلتُ إليه بعد بحث ودراسة، لا تزال مستمرة عبر الاستبانة والاستقراء والحوار مع شرائح متنوعة من الشباب، هو أنَّ كثيراً ممن يعتبرون أنفسهم ملحدين أو لا دينيين أو حتى متشككين ومستشكلين، هم فى الحقيقة باحثون عن أجوبة لأسئلة تجيش بها صدورهم ومن حقهم أن يأخذوا الفرصة والوقت الكافيين فى البحث الجادّ عنها.

 

{أوْ كالَّذى مرَّ على قريةٍ وهى خاوِيةٌ على عُروشِها قالَ أنَّى يُحيِى هذهِ اللهُ بعدَ مَوتِها}.

 

اللهم يا مَن احتجبَ بنور ظهوره عن خلقه، وأشهدهم حقيقة وجوده بتجلى أفعاله، وأودع فى مكنون قلوبهم بصيرة خرق حجاب نفوسهم، دُلّنا بك عليك، وأوصلنا بفضلك إليك، وانقلنا من حيرة الوهم إلى حيرة الفهم، يا قُدّوس يا سلام!