خوارج ‘‘العصر‘‘ والحداثة..

2015-11-05 12:14

 

للباحثين عن المعرفة، والمتجاوزين ثقافة الضجيج، وكذلك للذين يعيشون حالة من "التقديس" اللاديني لفلسفة الحداثة وما بعد الحداثة إلى درجة رفض توجيه أي نقد لإفرازاتها.

 

يقول الفيلسوف البريطاني "جون غراي"(*) في كتابه: "القاعدة ومعنى كونها حداثية":

"يهيمن على المجتمعات الغربية اعتقاد بأنّ الحداثة حالة منفردة، في كل مكان هي ذاتها ودائمًا حميدة. وحيث تصبح المجتمعات حداثية أكثر تغدو متساوية أكثر؛ وتمسي في الوقت نفسه في حال أفضل. فلكي تكون حداثيًا يعني أن تدرك قيمنا، أي قيم التنوير، كما نحب أن نراها.

 

ليس ثمة تعبير مبتذل محدِث للصدمة أكثر من وصف تنظيم القاعدة بأنّه نكوص إلى العصور الوسطى. إنما تنظيم القاعدة نتاج ثانوي للعولمة. فعلى غرار اتحادات تجار المخدرات وشركات الأعمال الافتراضية، العالمية النطاق، التي تطورت في التسعينيات، انبعثت القاعدة في زمنٍ عندما أحدث إلغاء القيود المالية تجمعات هائلة من الثروة الخارجية وصارت الجريمة المنظمة عالمية. وقد كان من المستحيل في الماضي وجود أبرز سمة مميزة لها، وهي إطلاق صورة من صور الخصخصة للعنف المنظم. وكذلك لم يكن موجودًا في العصور الوسطى قط الاعتقاد بأنّه من الممكن الوصول سريعًا إلى عالم جديد عن طريق أعمال تدمير مثيرة للعجب. وإنّ الأقرب للقاعدة ممن جاء قبلها هم الفوضويون الثوريون المنادون باللاسلطوية في أواخر القرن التاسع عشر في أوربا.

 

وكل من يشكّ بأنّ الإرهاب الثوري اختراع حداثي يكون قد تناسى التاريخ القريب. وقد كان الاتحاد السوفييتي محاولة لتجسيد مفهوم التنوير المثالي: عالم بلا سلطة ولا صراع. وفي سعيها لتحقيق ذلك قتلت واستعبدت ملايين البشر. وارتكبت ألمانيا النازية أسوأ إبادة جماعية في التاريخ وكان الهدف من ذلك توليد نوع جديد من البشر. ولم يسبق عصر من العصور أن تعهّد مثل هذه المشاريع. فغرف الغاز ومعتقلات العمل الإلزامي السوفييتية هي حداثية.

 

هناك طرق عديدة لتكون الحالة حداثية، بعض هذه الطرق فظيع بغيض. على أنّ الاعتقاد بأنه لا توجد إلا طريقة واحدة هي حسنة على الدوام له جذور عميقة. فمنذ القرن الثامن عشر فصاعدًا صار معتقدًا أنّ نمو المعرفة العلمية وتحرير البشر يسيران جنبًا إلى جنب. وهذا المعتقد التنويري، إذ سرعان ما اكتسب زخارف الدين، كان معبَّرًا عنه التعبير الأوضح في حركة فكرية، نشأت في بداية القرن التاسع عشر، غريبة غير مألوفة وأحيانًا بشعة لكنّها مؤثرة تأثيرًا واسعًا وصامدًا أطلقت على نفسها الفلسفة الوضعية.

 

كان يعتقد أصحاب الفلسفة الوضعية أنه حيث صارت المجتمعات معتمدة على العلم فهي ملزمة بأن تصبح متساوية أكثر. فمن شأن المعرفة العلمية أن تولّد أخلاقًا عالمية يكون فيها هدف المجتمع الإنتاج بأكبر قدر ممكن. وعن طريق استخدام التقنية ستتوسع سلطة الإنسان على موارد الأرض وتتغلّب على أسوأ أشكال الشحّ الطبيعي، ويمكن إلغاء الفقر والحروب. وعن طريق القوة التي يمنحها العلم ستكون الإنسانية قادرة على خلق عالم جديد.

 

وكان هناك خلاف دائمًا ولا يزال حول طبيعة هذا العالم الجديد. فبالنسبة لماركس ولينين هو فوضوية (أناركية) لا طبقية عادلة. وبالنسبة لفوكوياما والليبراليين الجدد هو سوق عالمي حر. هذه الآراء حول مستقبل مرتكز على العلم مختلفة جدًا، غير أنّ ذلك قطعًا قد أوهن الأخذ بهذا الاعتقاد الذي يعبرون عنه.

فقد ألهمت الأفكار الوضعية، بتأثيرها العميق على ماركس، التجربة السوفييتية الكارثية في التخطيط الاقتصادي المركزي. وحين انهار النظام السوفييتي انبثقت هذه الأفكار من جديد في طائفة تؤمن بالسوق الحر. وصار معتقدًا أن ’الرأسمالية الديمقراطية‘ الأمريكية الطراز هي الحداثية الوحيدة دون غيرها، وأنّه مقدَّر لها أن تنتشر في كل مكان، وحين يحصل ذلك ستبرز إلى حيّز الوجود حضارة كونية وسيصل التاريخ إلى نهايته.

 

قد يبدو هذا عقيدةً غريبة، وهو كذلك، ولكن الأغرب من ذلك أنّها لا تزال مصدَّقًا بها على نطاق واسع. فهي تشكّل برامج الأحزاب السياسية السائدة في أنحاء العالم، وتوجّه سياسات الهيئات الدولية كصندوق النقد الدولي، وتنشّط "الحرب على الإرهاب" التي تعد فيها ’القاعدة‘ من بقايا الماضي.

وهذه النظرة ببساطة نظرة خاطئة، فالإسلام المتشدّد، كما الشيوعية والنازية، حداثي. وإن زعم أنّه ضد الغرب فهو متأثّر بالفكر الغربي بقدر ما هو متأثر بالتعاليم الإسلامية. وعلى غرار الماركسيين والليبراليين الجدد، ينظر الإسلاميون المتشددون إلى التاريخ بأنّه مقدّمة لعالم جديد. وجميعهم على قناعة بأنّه باستطاعتهم إعادة تشكيل واقع البشر. وإن كان هناك أسطورة حداثية على نحو فريد، فهذه هي".

 

...........

ملاحظة:

هذا النقل لا يعني نفي وجود مباحث في كتب الفقه بحاجة إلى المراجعة، ولا يعني إعفاء علماء الشريعة المطهرة من واجبهم في التجديد والإحياء، ولكنه يُبين حقيقة يحاول الكثيرون التهرب من مواجهتها؛ وهي أن داعش وأمثالهم من خوارج "العصر" ما هم إلا نتاج لإعمال أدوات الحداثة في النصوص الشرعية، وقياداتهم تخرجوا من "أبو غريب" و"جوانتانامو".

وأنهم لا يعترفون بالمذاهب الفقهية المعتبرة بل يتسوَّرون الاستنباط من الكتاب والسنة بغير أهلية وأنهم يكفرون شيوخ الأزهر ويعتبرون مناهجه ضالة.

 

...........

*- تعريف بالكاتب منقول عن موقع ويكيبديا:

جون غراي فيلسوف بريطاني متخصص في الفلسفة السياسية، مهتم بالفلسفة التحليلية وتاريخ الأفكار، وهو أستاذ في الفكر الأوربي متقاعد من جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. درس الفلسفة والعلوم السياسية والاقتصاد في جامعة اكسيتر وأكسفورد.