تعمدت في الآونة الأخيرة أن لا أعلق على الأخبار المُسربة حول حوار جدة و إتفاقية الرياض، لأنني كنت أرى في تحليلات الكثير أموراً بعيدة عن الواقع، فكل منهم يحلل ما يراه يرضي طموحه و ضميره إن كان من الشمال او من الجنوب، لهذا انتظر يوم التوقيع و الإعلان رسمياً على الاتفاق.
في علم التفاوض و إدارة الحوار هناك أسس و مبادئ تتخذها الدول التي تدير الحوار مثل ما عملت دول التحالف في جدة، و ما أتمته المملكة في الرياض، فالآلية الجوهرية في إدارة الحوار بين المتحاورين هو "عملية الدفع" و إقناع المتحاورين بالواقع، فمن خلال الدفع بدون توقف يتم التنازل عن العوائق و لو كانت حقوقاً و مطالباً مشروعة، و بغض النظر إلى أين ستصل في النهاية.
...
كان هنري كيسينجر يقول اثناء التفاوض بين العرب و اسرائيل، لا تعقدوا الأمور، المشكلة الكبيرة يجب تقسيمها و تجزئتها حتى نبدأ في حل الأمور السهلة أولاً حتى نصل لاحقاً للأمور المعقدة، و الأهم أن نصل لسلام قد لا يرضي الطرفين، و لكنه في الأخير هناك تنازلات من الطرفين يجب تحملها.
عملت المملكة منذ بدء التفاوض بأن أحدكم لا يعتقد انه لن يتنازل عن بعض ما يطلبه، فعليكم أن تقتنعوا أن هناك سلاماً ظالماً بوسعكم تغييره و رفضه، و سلاماً عادلاً إذا قبلتم به ستُكافأون عليه. و بهذا يتم دفع الطرفين إلى تقديم التنازلات الضرورية لـلإتفاق من خلال سياسة الجزرة و العصا (أي المكافآت و العقوبات).
...
هناك بعض الجنوبيين يصرخون بأن الاتفاق لم يذكر استقلالهم أو إستعادة الدولة او فك الارتباط مع الجمهورية العربية اليمنية، و هذا صحيح فالتحالف جاء لإنهاء الانقلاب الحوثي المدعوم من ايران و حماية المياة من إحتلالها من الحوثي/ايران، و قضية الجنوب سيأتي دوره في مباحثات السلام الشامل.
لهذا أعتقد إن إخوتنا في الإنتقالي تعاملوا بحكمة في هذا الحوار، و أخذوا ما يريدونه حيث أصبح الانتقالي ممثلاً للشعب الجنوبي و معترفاً به إقليمياً و عالمياً، فهناك بعد هذه المرحلة ستأتي عملية السلام الشامل حتى إستعادة الدولة الجنوبية التي ذهبت لوحدة فاشلة، لهذا اقترح التركيز على خطوات صغيرة عملية نحو السلام بدل الإصرار على حل جميع المشاكل دفعة واحدة.
و رأينا ذلك في عملية السلام التي قادها كيسنجر و هي سياسة الخطوة خطوة لو تذكروها و التي أدت الى ثلاث اتفاقيات: سيناء 1 و الجولان 1 في أوائل عام 1974، و سيناء 2 في خريف عام 1975. قدم فيها العرب المزيد من التنازلات مقابل الحصول على ما هو حق لهم.
الخلاصة:
_____
انا سعيد جداً بحكمة وفد الإنتقالي و عدم إنجراره وراء استفزاز وفد الشرعية، فجاء الإنتقالي ممثلاً لشعب الجنوب و لديه قضية وطنية يمثلها بقلبه، و لا يهمه ما يصدره عقل الآخر من اعتراضات. فالآخر لا يملك قضية، و انما يملك سياسة فيد و إحتلال.
ربنا يهدي فخامة الرئيس هادي و يكمل المشوار لأن الخاسر الأول في هذا الاتفاق هو تجمع الخونة المسلمون، و ربنا ينصر ابناء الجنوب، و يبارك كل الاتفاقات بين السعودية و الامارات.
الدكتور علي محمد جارالله
28 أكتوبر 2019م