أبناء الضالع ليسوا كائنات خرافية ولا مخلوقات قادمة من عوالم القوى الخارقة، بل إنهم بشر عاديون مثلهم مثل سائر البشر يميزهم ما يميز أبناء المناطق الريفية ذات التضاريس الوعرة والموارد المحدود والطبيعة الخشنة، ما يمنحهم القدرة على مواجهة الشدائد وقهر التحديات والتمييز بين المخاطر القابلة للتذليل والإزالة وبين تلك التي قد يتطلب التعامل معها وقتاً وجهداً كافيين للتغلب عليها.
وإذا ما أضفنا إليها تلك القيمة الإخلاقية المتمثلة بالشجاعة والميل إلى النزاهة وإباء الظيم ورفض النفاق وازدراء حياة الذل والتحلي بالصدق فإن ذلك ما يجعل هذه المنطقة ومعها الكثير من المناطق تجترح المآثر وتصنع المعجزات وتقهر من يرون أنفسهم فوق مستوى البشر.
ويحتفظ التاريخ بأسماء وحوادث لا بد أن تتعلمها الأجيال الجديدة مثل تجربة الشيخ محمد عواس مع الضابط السياسي البريطاني في منتصف الأربعينات وتجربة قادة الجبهة القومية في مقاومة الاستعمار البريطاني ودور الضالع وأبطالها ومعهم كل أبطال الجنوب في قهر الامبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس.
* * *
عندما أقدم علي عبد الله صالح على استحداث محافظة باسم "محافظة الضالع" كان يسعى إلى اصطياد مجموعة عصافير بحجر واحد، فمن ناحية سيوهم تلك المديريات (المشاغبة) بأنه قد منحها هبةً كبيرة لم تحصل عليها عندما كان لديها قادة تاريخيون يساهمون في صنع كل القرارات السياسية المصيرية في الجنوب، ومن ناحية ثانية سيتخلص من تلك المديريات (الجنوبية) قليلة السكان كثيرة (الشغب) عالية الصوت، بدمجها في مديريات (شمالية) كثيفة السكان قليلة الطلبات منخفظة الصوت (كما توقع) ومن ناحية ثالثة سيعيد تحجيم الصراع الذي أنتجته حرب 1994م من صراع جنوبي ـ شمالي إلى صراع ضالعي ـ ضالعي بين مديريات الشمال ومديريات الجنوب في المحافظة نفسها، علما بأن سكان المديريات الشمالية لم يكونوا على علاقة طيبة بنظام علي عبد الله صالح منذ صعوده إلى كرسي الحكم في العام 1978م.
لكن ما فات على الرئيس السابق ومستشاروه، أن الضالع بمديرياتها الشمالية والجنوبية لم تكن قط على علاقات عدائية، بل لقد كانت الحركات المعارضة لنظام صالح تتمركز في تلك المديريات التي كانت تسمى بالمناطق الوسطى (طبعا إلى جانب مناطق عديدة في محافظات تعز وإب وريمة وذمار والبيضا وحتى مأرب والجوف)، لكن ما يميز مديريات الضالع الشمالية أنها كانت على اتصال مباشر بشقيقاتها الجنوبية وتستمد المديريات من بعضها السند والعزم والتأثير والتأثر والتمرس على قهر الصعاب ومواجهة الشدائد واجتراح المآثر.
* * *
في الحرب الحوثية العدوانية الأخيرة على الضالع والتي أتت في ظل صمت مطبق عم كل الجبهات التي تسيطر عليها قوات (الشرعية) واستغراق القيادات والوحدات العسكرية التابعة للشرعية في سبات عميق لا تقبل لأحد أن يحرمها مما فيه من لذة وسكينة، هذه الحرب التي أتت بعد التآمر على منطقة حجور بمحافظة حجة من قبل القوات "الشرعية" وتسليمها للجماعة الحوثية، توقع الكثير من المتابعين، بما في ذلك بعض المتعاطفين مع المقاومة الجنوبية والساخطين على الجماعة الحوثية، أن سقوط الضالع بيد الجماعة هي مجرد مسألة وقت فكل العوامل تسير في صالح الغزاة الحوثيين، من كثافة أفراد القوات المهاجمة ، إلى التفوق في العدة والعتاد، والتفوق التضاريسي، حيث السيطرة الحوثية على المرتفعات ووجود المقاومة الضالعية في المدن والمناطق المنخفضة نسبيا، ثم قوة الاستعراض الحوثية وتنفيذها عمليات نوعية تجعل من يواجهها يحسب حسابا دقيقا لمعاني ومدلولات تلك الاستعراضات.
بيد أن ما جرى في مديريات الضالع (الجنوبية والشمالية) قد جاء مخالفاً لكل توقعات المتابعين وقدم ما جرى من مواجهة غير متكافئة كمعجزة من معجزات الحروب الحديثة، حيث ألحقت بالقوات الحوثية هزيمة منكرة أعادت قادة الجماعة إلى العام 2015م حينما كانت الضالع وحتى معظم محافظات الجنوب تقاوم بصورة منعزلة عن شقيقاتها فضلاً عن غياب المؤسسة الرسمية (الشرعية) عن المشهد واكتفائها بالتخاطب مع الجتمعين الإقليمي والدولي وممثليهما قبل أن يتفكك التحالف الانقلابي وينفرد الحوثيون بصدارة المشهد.
سحق اللمحاولة الحوثية الأخيرة في العودة إلى الضالع أكد ما قلناه مراراً أن هذه الحركة لا مكان لها في الجنوب، وأن المقاومة الجنوبية والأجهزة الأمنية الجنوبية التي لم تكن قد أسست عندما دحر الشعب الجنوبي هذه الجماعة ومن معها، ستكون اليوم أكثر قدرة على دحر الجماعة مهما كررت محاولاتها، بعدما اكتسب الشعب الجنوبي المزيد من القوة والمهارة كماً ونوعاً وازداد تنظيماً وتفاعلاً مع اكتسابه المزيد من أدوات المواجهة ووعلوم خوض المعارك والأداء الكفاحي الاحترافي.