القضية الجنوبية.. وفن تسديد السهام
ما تزال الضبابية السياسية هي سيدة الموقف، حينما يتعلق الأمر بالقضية الجنوبية، ونضال الشعب الجنوبي الممتد قرابة ثلث قرن من أجل حريته وكرامته واستعادة دولته بحدودها التاريخية.
لقد مر زمنٌ كانت فيه الإرادة الشعبية قد بلغت ذروةً، اعتقد الكثير من الجنوبيين أنه لم يعد يفصل بينهم وبين استعادة كينونتهم السياسية سوى خطوات معدودة، حينما كانت الملايين تجوب المدن والبلدات وتملأ الساحات والميادين وتتحدى رصاص وقيود وقاذفات السلطات الغاصبة للأرض والحق والكيان الجنوبي، وقال كثيرون "إن الدولة الجنوبية على مرمى حجر" ولو توفر حينها الكيان السياسي الناضج والمؤهل لحمل هذه الإرادة الشعبية الجارفة، وإيصالها إلى أهدافها، لكان قطع نصف الطريق إلى "مرمى الحجر".
ولسنا بحاجة إلى استعراض التطورات السياسية والعسكرية وما وصل إليه الأمر خلال أعوام النصف الثاني من العقد الثاني من قرننا الحالي.
ويبدو لي أن الخارج (اليمني والعربي والدولي أيضاً) قد أدرك خطورة التطورات على الساحة الجنوبية أكثر مما أدركه الجنوبيون أنفسهم، وجاءت المتغيرات التي جرت خلال السنوات الست أو السبع المنصرمة، لتفرمل الاندفاع الجنوبي الجارف نحو استعادة الدولة والشروع في السير على الطريق الجنوبي المستقل نحو المستقبل المستقل.
اليوم يقف الجنوبيون على شفا مجموعة من الهاويات، ليس أقلها خطورة مواصلة الرهان على خيار "التسوية السياسية" التي تروج لها الكثير من الأطراف اليمنية والإقليمية والدولية، والتي ليس للجنوب فيها مفردة واحدة سوى تلك العبارة اليتيمة التي وردت في بيان "مخرجات مشاورات الرياض" التي دخلت فريزر التاريخ ولم تخرج منه، وأعني عبارة "الإطار التفاوضي" الذي يحتاج إلى فريق متخصص من فطاحلة اللغات العالمية ليفسر معني اللفظتين الزئبقيتين الواردتين في ذلك البيان المدرج في دهاليز النسيان.
"الشراكة السياسية"، "التسوية السياسية"، "الإطار التفاوضي"، "استعادة الدولة" "استعادة العاصمة"، كلها أنصاف جُمَلٍ خبرية، يمكن التعامل معها في ضوء الإقرار بأن هناك مشكلتان في اليمن، مشكلة صراع (الحوثي-الشرعية)وهذه لها نطاقها ومفردات النقاش فيها، ومشكلة الجنوب وحقه في استعادة دولته المستقلة، وهذه لا يكفي الحديث فيها عن "إطار تفاوضي" لأن هذا الإطار عبارة عن فخ ملغوم لا يتضمن أي معنىً محدد وملموس، وإنما فقاعة جوفاء معلقة في الهواء البعيد العصيِّ حتى عن اللمس والتناول.
الطرف الجنوبي ليس ضعيفا إلى الدرجة التي يتصورها البعض والتي يمكن فيها أن يسلم كل الأوراق للخصوم، أو حتى للأصدقاء والأشقاء، فلديه أقوى الأوراق، وأهمها وأكثرها أهمية في الحسم وأثقلها وزناً في الصراع وفي التفاوض، وهي الأرض والسكان والموارد والانتصار التاريخي الذي صنعه آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى والمصابين، لكن امتلاكك لأوراق الضغط لا يكفي ما لم تتقن كيف توظف هذه الأوراق وتجعل منها عنصر ترجيح لكفة قضيتك التي تمتلك من العدالة والمشروعية والأحقية ما يضعها في أولويات أي جدول أعمال وأي تسوية سياسية مفترضة.
وقديما قيل "لا يكفي أن تمتلك آلاف السهام، لكن الأهم أن تتقن تسديدها".