خلفيات العنف.. وتهمة التبرير

2013-02-20 14:19

خلفيات العنف.. وتهمة التبرير

الحمد لله..

 

قابلت عدداً من أصحاب القرار بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر فى حمأة ما يُسمى بالحرب على الإرهاب، وكانت الأسئلة المتكررة تُطرح من قِبلهم بنفس السياق ونفس ردود الفعل على الإجابات..

 

- ما رأيك فى تفجير البرجين؟

- جريمة يُحرمها الشرع والخُلُق والعقل.

- وما رأيك فيمن ارتكبها؟ أرجوك لا تدخلنا فى سراديب نظرية المؤامرة..

 

- مرتكبو جرائم.

- وكيف نتعامل مع أمثالهم ممن حملوا السلاح؟

- مستخدم السلاح يقابل بالسلاح.

- ممتاز!

- ولكن هذا غير كافٍ ولن يؤدى وحده إلى القضاء على المشكلة بل ربما يزيدها.

 

- ماذا تقصد؟

- حامل السلاح بيده يحمل فكراً منحرفا فى رأسه، وإشكاليات متراكمة فى نفسه.. وهى موجودة لدى الآلاف ممن لم يحملوا السلاح بعد..

 

- ماذا تعنى بذلك؟ وكيف ينبغى التعامل معه؟

- الفكر يُقابل بالفكر والإشكاليات تقابل بالاعتراف بها والعمل على معالجتها، وهذا يحوِّل طاقات الكثير ممن هم جزء من المشكلة إلى جزء فاعل فى الحل..

 

- ما مشكلة الفكر؟

- متنوعة، ومن أبسطها الفهم الخاطئ للجهاد، وهو نتاج لقلة المعرفة بالشريعة، التى فاقمها حذف أبواب الجهاد من المقررات التعليمية، ما أدى إلى جعل الشباب عُرضة للاستجابة لكل من يتلو عليهم نصوص الجهاد من الكتاب والسنة مع تحريف دلالاتها.

 

- وعلاج ذلك من وجهة نظرك؟

- التدريس الناضج لفقه الأحكام الشرعية الصحيحة ومنها باب الجهاد، وليس تخفيف جرعة التعليم الدينى وتوهّم أن هذا سوف يبعد الشباب عن خطر الإرهاب.

 

- والجانب الآخر؟

- التراكمات النفسية؟

- نعم.

- الشباب فى منطقتنا يُعانون تراكمات من الظلم والفساد وسوء المعالجة لمشكلاتهم الاجتماعية، مع شعورهم بمرارة الهزيمة والتخلف عن ركب التقدم العالمى بالرغم من قدرتهم على النهوض بواقعهم..

 

يقاطعنى قائلاً:

- أنت الآن تبرر لهم، وهذا مناقض لجوابك الأول..

 

- بل أحاول تفسير ما يجرى بالاستدلال على المرض بالعرَض.

 

- كيف؟

- هل توجد لدى الشباب تراكمات من الظلم فى التعامل مع قضاياهم ومشكلاتهم؟

 

- هذا تراكم ورثناه من الأنظمة التى سبقتنا، ونحن نحاول التصحيح قدر المستطاع وفق الإمكانيات المتاحة.

 

- إذن وضّحوا لهم الأمر واشرحوا لهم العقبات، وتعاملوا معهم عبر الاعتراف بحجم المشكلة ومستوى الإمكانيات المتاحة.

 

- وهيبة الدولة؟

- سيُضاف إليها محبة الدولة.. والولاء للوطن الذى يشعر بهمومهم ويحترم عقولهم ويراعى حقوقهم، وتكون قيادته واضحة معهم.

 

- وماذا أيضاً؟

- هناك جانب من الظلم لا علاقة له بالإمكانيات بل بشجاعة الاعتراف بالخطأ.. فالمشرط الأمنى وحلول الجراحة المصاحبة له من بتر وتجميل لا ينبغى اللجوء إليه إلا عند عدم جدوى العلاج ومداهمة الخطر، وهو حينها لا يكون كافياً دون معالجة موازية.

 

- وماذا تقصد بالفساد؟ (يقولها بشىء من الريبة والتحفز).

 

- الفساد الإدارى والاقتصادى والتعليمى وغيره..

 

- كنت أظنك ستتكلم عن فساد المسلسلات والأفلام والأغانى. (يقولها مبتسماً).

 

- هذا أمر جانبى.

- لكنهم يتحدثون عنه فى تبرير أفعالهم.

- وقد أخبرتك أننى لست مبرراً فى حوارى معك.

 

- إذن كيف تبرر جرائم القتل والإرهاب بالفساد؟

- بل أفسّر ولا أبرر.. والتهرب من النظر إلى عمق المشكلة لا يحلها..

 

فهذا الفساد يؤدى إلى حرمان الشباب من حقوقهم ويصادر أحلامهم ويُشعرهم بأن لا مستقبل أمامهم، وعندها يبحثون عن مستقبل آخر.. ليجدوا من المتطرفين مَن ينسج لمخيلاتهم مستقبلاً آخر فيه العزة والنصر للأمة مع ما ينتظره فى الجنة من الحور والقصور، وهو يجهل أن ارتكاب هذه الجرائم يُحطم ذلك المستقبل الآخر.

 

- وماذا عن مشكلة التخلف الحضارى، هل سيحلها العنف؟

 

- كلا، غير أنه تصرف المهزوم تجاه المنتصر إذا لم يجد أمامه أفقاً واضحاً للتخلص من مرارة الهزيمة.

 

- ولكنك لم تلاحظ أن هؤلاء ليسوا سوى مجموعة من طالبى السلطة وتجار الدين الذين يستغلون الإسلام لتبرير أطماعهم وتستغلهم قوى خارجية للضغط علينا.

 

- هؤلاء، إن وُجدوا، لا يمكن أن يكون لهم تأثير فى الواقع لولا أن وراءهم شباباً صادقاً محباً لدينه ولأمته أوصلته المعاناة مع ضعف الوعى إلى درجة المخاطرة بنفسه ليعرضها للسجن والتعذيب ثم يصل بعد ذلك إلى تفجير نفسه بعد انسداد أبواب الحل فى وجهه، فهل يفجر تاجر الدين نفسه؟

 

وهذه ليست مقتصرة على الدافع الدينى وحده، فقد كان الفدائيون الشيوعيون يفعلون ذلك وهم لا يؤمنون بدين ولا بآخرة، ولكنهم يؤمنون بمبدأ التضحية فى سبيل نصرة المبادئ خدمة لمستقبل الوطن والأمة فيما يتصورونه.

 

- لا أستطيع أن أنفى وجود بعض مما ذكرته، لكنى أشعر أنك تضخم الأمور بسبب تعاطفك مع الإسلاميين..

 

ثم يقول بنبرة حازمة: وإذا لم تكن لكم أيها العلماء والدعاة مواقف أقوى من ذلك فى الإنكار على جرائمهم فسوف يؤدى ذلك إلى عدم اقتناع العالم ببراءة الإسلام من هذه الأفكار والتصرفات الإجرامية.

 

- فخامتك.. ابتدأتُ الكلام بتجريم أفعالهم بوضوح.

 

- ولكنك عدت لتدافع..

- عفواً لم أكمل.

- تفضل.

- والأمور ضخمة بالفعل ولست من يُضخمها، وإذا لم تكن لدينا شجاعة النظر فى عمق المشكلة فسوف تكبر وتتخذ أبعاداً أخرى من الرفض قد لا تستطيعون استيعابها..

 

وهذه وجهة نظر من ليس لديه طموح سياسى ولا رغبة فى التنافس على الحكم..

 

.. .. .. .. .. .. .. .. ..

كان هذا حواراً يتكرر مع أصحاب القرار فى عدد من الدول، اثنتان منها شهدت ثورة أسقطت رأسَى النظام فيها، وثلاث منها تعانى من مشاكل تشتد وترتخى من وقت إلى آخر.

 

واليوم..

أرى العنف يتجدد فى ثلاث دول، يتولى من كانوا يُعانون فى سجونها بالأمس زمام القيادة اليوم فى اثنتين منها، ويشاركون فى حكم الثالثة..

 

والغريب أن شيئاً لم يتغير فى أسلوب المعالجة..

فالطرح نفس الطرح..

والتجاهل نفس التجاهل..

والاتهامات نفس الاتهامات..

لكن بتغير فى الأدوار وباصطفاف التبرير الدينى فى ثوبه الحركى إلى جانب الحكم هذه المرة، ليحل محل الشرعية الثورية لدى الشباب..

 

وسوف تتكرر المشكلة ولكن على نحو أشد فى ظلّ فوضى اختلاط الواقع وسرعة تتابع أحداثه وتعدد مدخلاته وتداخل مؤثراته.

 

ولن تجدى كل محاولات التجاهل لقضية الشباب، ولن يستقر الأمر عبر التشكيك فى منطلقاتهم ومحاولة وسمهم بالاتهامات المتنوعة إلى حد التناقض!

 

وعصا الترهيب الدينى المصنوعة من التلاعب بالنصوص وإنزالها على غير مقصودها أصبحت هشة وتوشك أن تتحطم على (صخرة) إصرار الشباب أو على (جبل) معاناة البسطاء، الذين أوشك رصيد مصداقية الدعاة لديهم على النفاد.. بسبب الإسراف المتهور فى استخدامه عند كل عقبة سياسية.. فالخطاب وحده لا يسمن ولا يغنى من جوع.. والخطاب لن يطعم الأفواه الجائعة فى ظل اتساع (خرق) الفقر على (راقع) الجمعيات الخيرية..

 

واسمعوها من محبّ:

هؤلاء الشباب هم قادة المرحلة القادمة

هؤلاء الشباب هم قادة المرحلة القادمة

هؤلاء الشباب هم قادة المرحلة القادمة

وهؤلاء الشباب لديهم قضية ولها خلفية متصلة بالقناعات.. وسياق متصل بالمعاناة..

 

وواقع متصل (بالغضب) الذى ما زال رصيد العقل فيه يحتفظ بالحد الأدنى الذى يسمح، حتى الآن، باعتباره رصيداً فى (مصرف) قابلية التفاعل..

 

فاحذروا نفاده.. لأنه إذا انتهى رصيد التفاعل فسوف يحل محله الانفعال المحض..

 

ولن تستطيع كل إمكانياتكم استيعابه أو إيقافه، ولن تغنى عنكم كل الحسابات السياسية أو تحالفات المصالح الدولية.

 

{ولا تَكُونُواْ كَالتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

 

والخلاصة:

كنا بالأمس نقول: عالجوا الأسباب التى أدت إلى عنف متطرفى الإسلاميين..

 

واليوم نقول: عالجوا الأسباب التى أدت إلى عنف متطرفى الثوريين..

 

وكنا نُسأل فى سياق الاتهام: هل هذا تبرير لأفعالهم؟!

 

فنجيب: بل سعى عملى لإيقافها.

وهو جواب اليوم عن نفس السؤال الذى سيتكرر.. والسلام.

 

{إِنَّ الْأَرْضَ لِلهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

 

اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتنى.. وأنا عبدك.. وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت.. أعوذ بك من شرّ ما صنعتُ.. أبوء لك بنعمتك علىّ وأبوء بذنبى.. فاغفر لى.. فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.