قديماً قال الحكيم اليوناني هرقليطس بأن الحرب هي أبو كل شيءٍ، فارتبطت في هذه العبارة الحرب بما هي عنف خالص بالأبوة الذكورية بعملية الخلق والتغيير.
قد تكون هذه الصيغة المحكمة في توصيف الحرب قد اختفت في أنحاء كثيرة من العالم، الحرب بوصفها وسيلة التواصل الوحيدة مع الآخرين، خصوصاً على الصعيد المحلي في دولة ما، لكن في بلد كاليمن ما زالت هذه المقولة تحظى بقدرٍ كبيرٍ من الوجاهة والواقعية.
فلو نظرنا إلى التفاعلات السياسية بوصفها المجال الذي تدور فيه المنافسات بين القوى الاجتماعية في صراعها المرير للظفر بالسلطة والهيمنة، سنكتشف بسهولة أن النشاط السياسي، وهو ذكوري بامتياز، للجماعات المختلفة الذي يقتات من مخرجات بنية اجتماعية شديدة الانقسام بات محكوماً بنزعات صراعيّة لا شفاء منها ولا يُمكن تفاديها أو تهذيبها بأي وسيلة من وسائل السياسة، السياسة بما هي تدبير سلمي للصراعات والمنافسات.
وحتى "الحرب" بما هي دالة سياسية وكما عبّر عنها الجنرال البروسي كلاوزفيتز، أي بما هي استكمالٌ للسياسة بوسائلٍ أخرى، وبغض النظر هُنا عن الملاحظات الأخلاقية الناقدة لهذا التبرير الأنيق، ليست كافية لتفسير كل هذه الحروب التي تنشب في اليمن كل بضع سنوات. فقد صارت الممارسة السياسية، على هزلها واضطرابها وتوترها، هي دالة حربية بامتياز، صارت إما استكمالاً للقتال أو استئنافاً له بين فاصلين زمنيين قصيرين. فالحرب صارت هي الشكل النهائي، وربما الوحيد، للمنافسة وللانتخاب بين القوى المتصارعة على الدوام.
وبإطلالة سريعة على التاريخ اليمني، خصوصاً المعاصر منه حيث بدأت مفاهيم حديثة من قبيل الوطنية والمؤسسات القانونية وحيز الفضاء العام المُشترك تدب في عروق النقاش المحلي ويتم تداولها على نطاق واسع في الأدبيات السياسية والاجتماعية للقوى المختلفة، تبدو الصورة على أرض الواقع مختلفة تماماً، وليس من المبالغة القول بأنه ربما لم يمض يوماً على هذا البلد دون أن يكون خالي الوفاض من أي نزاع مسلح، صَغُر أم كَبُر.
أحد المفارقات الصادمة التي تؤشر على دلالات كثيرة، أنه في بداية التسعينات من القرن المنصرم تقدّم الحزب الاشتراكي بمشروع قانون إلى مجلس النواب هدف إلى تنظيم حمل السلاح، فعادة اليمني أن يحمل معه سلاحه أينما توجّه أو حل، وتجريم كل من يحمله خارج القانون، خصوصاً في المدن، فواجه هذا المشروع معارضة شديدة وتم رفضه من قِبل قطاع واسع من أعضاء المجلس، المجلس الذي كان أقرب إلى ملتقى لشئون القبائل أكثر من كونه مؤسسة سياسيّة مدنية، وتحت ذريعة أن السلاح "مُكمّل للشخصية اليمنية"!. لهذا السبب كانت تُوجد في اليمن قرابة 60 مليون قطعة سلاح وفق تقارير دولية، أي بمعدّل ثلاث قطع سلاح لكل مواطن، ولا سلطة لمؤسسات الدولة عليها. لقد كان هذا الانتشار المهول للسلاح في وقت يُشار إليه مجازاً بـ"السِلم"، مجازاً لأننا يجب أن نشيح بأبصارنا كلياً عن النزاعات المسلحة الصغيرة التي تحدث على مدار أيام السنة في أماكن متفرقة من البلاد، واما في زمن "الحروب الشاملة"، فحدّث عن السلاح بمختلف أشكاله واحجامه ولا حرج.
طبيعة المجتمع الانقسامية التي انتجت كيان سياسي عصبوي هزيل بمؤسسات مهترئة وغير فاعلة من ناحية انتصارها للحق العام والخاص ولقيم العدالة، منعت على الدوام من قيام المشتركات بين جموع المواطنين، المشتركات التي تُحرّض الغالبية على الرغبة في العيش المشترك ورفاهية المجموع، وانتجت في واقع الأمر تشوشاً هائلاً في وعي المواطن البسيط عند تعاطيه وتفاعله مع القضايا الوطنية وأحداث الشأن العام على الرغم من الأدبيات التي تُكتب ببلاغة فخمة من قِبل النخب السياسية. ولا يُعتبر عدم تخليه عن "سلاحه الشخصي" على افتراض أنه يعيش في دولة تكفل حمايته وتحتكر في نفس الوقت وسائل القهر (المشروعة) أحد المؤشرات الدالة في هذا الصدد فحسب حتى لكان هذا المواطن بات يُردد بيت الشاعر الجاهلي: "ومن لم يّذُد عن حوضه بسلاحه يُهدَّمُ ومن لا يَظلُم الناس يُظلَمُ"، ولكن حتى وهو ينضوي تحت لواء حركات أو مكونات ترفع دعاوى وطنية فاخرة سينتهي به الحال في أخر المطاف إلى الدخول في صراعات ضارية تقوده إلى الانزواء في خندق جماعته الضيق في مقابل خندق ضيق لجماعة مناوئة، مغلوباً أو غالباً، فيما تُقضّم ما تبقى من مكتسبات، على شحتها ورداءتها، ساعدت الناس على أن يتقبلوا بعضهم البعض في العيش المشترك إلى هذا الوقت.
"هنا صوتك"