ما زال "الملف الجنوبي" يُكابد الإهمال في أي مفاوضات أو مساعٍ أمميّة تهدف إلى احتواء ازمة الصراع في اليمن وإعادة أنعاش العمليّة السياسيّة بين الأطراف المتحاربة، وكان آخر هذه المناسبات ما أُطلِّق على تسميته بـ"جنيف 2" وجرت أعماله الأسابيع الماضية وبرعاية مباشرة من الأمم المتحدة، وهو ما يُعيد إلى أذهاننا المشكلة ذاتها التي رافقت أعمال "مؤتمر الحوار الوطني" قبل ثلاث سنواتٍ، فضيق الأفق تجاه بعض القضايا وبطريقةٍ بعثت حينها على الريبة كان أحد الأسباب الرئيسيّة التي اغرت بعض القوى لحسم الأمور عن طريق الحرب مستغلةً أجواء الارتباك السائد، مما دفعت بالآخرين في المقابل إلى التهافت على الحرب لتأكيد وجودهم ومشروعيتهم على الأرض.
لقد فتحت الأحداث الأخيرة عيوننا على قضايا كثيرة وبات من الضروري إعادة التفكير والتعاطي مع الأزمة اليمنية من خلال منظورات جديدة ومختلفة. فطيلة الشهور الماضية أدّت التطورات العاصفة إلى حدوث تغييرات جذرية في خارطة القوى والأطراف السياسيّة والاجتماعيّة، وأعادت موضعتها بشكلٍ كاملٍ، كاشفة بذلك عن مدى الفاعليّة والتأييد الذي يحظى به كل طرفٍ.
وعلى سبيل المثال فقد دفعت هذه التطورات بقوى جنوبيّة إلى صدارة المشهد، مفضية إلى تغيير شامل في أنماط أداءها وأدوارها الذي اعتمد في الماضي على نضالٍ سلميٍّ جماهيريٍّ واسعٍ ولكنه افتقر إلى التنظيم الجيد والعمل المؤسسي. فباتت اليوم هذه القوى تحظى بتأييدٍ شعبيٍّ أكبر، وتمتلك مجاميع تتمتع بتنظيمٍ جيدٍ كانت الحرب التي انخرطت فيها لصد العدوان قد ساعدها على رفع مستواها التنظيمي وتنميّة مهاراتها وخبراتها العمليّة في غضون زمنٍ قصيرٍ، كما أكسبها الفراغ الأمني الكبير في المناطق المحررة المشروعية المجتمعيّة والدعم الشعبي للقيام بمهام حفظ الأمن والحيلولة دون سقوط المُدن في الفوضى والاختلالات.
صحيح أنه في هذه المناطق ما زالت الأمور تُدار عن طريق شراكة حذرة ومتوترة بين أطراف "الشرعيّة اليمنيّة" وعناصر "الحراك الجنوبي" اقتضتها التدخلات الإقليميّة وطبيعة الظروف المعقدة على الأرض، لكن هذا لا يمنع من أدراك مقدار الدور الفاعل والمؤثر لقوى الحراك الجنوبي.
بعضُ المراقبين يرى أن التجاهل الأممي للملف الجنوبي قد يكون مرحليّاً، أو بعبارةٍ أخرى تكتيكيّاً، في ظل أولويات أكثر إلحاحاً تفرضها الوقائع على الأرض وتداعياتها المختلفة، وعلى أمل أن يتم تدارك هذا الأمر في مراحل قادمة أو مستوى آخر من المفاوضات.
ففي الوقت الراهن تظل الحاجة ماسة إلى وقف أطلاق النار وتمكين حكومة الشرعيّة أو أي اطار حكومي جديد يقوم على الشراكة بين أطراف النزاع من العودة إلى العاصمة اليمنيّة صنعاء لمباشرة أعمالها، وإيقاف التدهور في ملفاتٍ كثيرةٍ أبرزها الملفات الاقتصاديّة والأمنيّة، فبحسب التقارير الدوليّة المنشورة حديثاً سيكون هنالك ما يُقارب الـ 20 مليون إنسان في اليمن بحاجةٍ إلى مساعداتٍ إنسانيّةٍ عاجلةٍ.
وعلى أيّة حالٍ، ما زال القلق يُساور كثير من الجنوبيين ليس فقط حيال التجاهل الأممي المستمر لقضيتهم ومستوى الاهتمام والتمثيل الذي ينبغي لمطالبهم السياسيّة المشروعة أن تناله وفقاً لما يتصورونه، ولكن مبعث الجزء الأكبر من هذا القلق يعود إلى انعدام شبه تام للثقة مع أطراف النزاع جميعها.
فجميع أطراف النزاع ، مؤتلفة كانت أم منفردة، خلفت رصيداً سلبيّاً هائلاً في الجنوب بلغ ذروته في شن حربين شاملتين في عامي 1994م و 2015م، علاوة على أن الخطاب الإعلامي ما زال ولحد اللحظة مصدر للكثير من التوتر والريبة، ولا يُساعد على فتح أفق ولو زهيد للانفراج وبناء الثقة لمعالجة القضايا العالقة والوصول إلى تثبيت ركائز متينة لسلامٍ مستدام!