لا شك في أن غزوة الشمال للجنوب صيف العام 1994 م قد قضت على ما كان يعتقد أنها وحدة الأخذ بالأحسن في تجربة البلدين، إضافة إلى الإقرار بالمسلك الديمقراطي سبيلاً لإدارة البلاد، وأجهض ذلك المشروع قبل أن يرى النور، وتفردَّت الجمهورية العربية اليمنية بكل طواقم حكمها التسلطي القائم على تحالفات القبيلة والجيش بالإجهاز على تجربة الجنوب في شقها الإنساني والاجتماعي والاقتصادي دون أن يتوقف فعل الانتقام البربري عن مسح الهوية والثقافة. إن ذلك لن يرسخ أقدام المحتل على المدى القريب أو حتى البعيد في الأرض المفتوحة من وجهة نظره، إتساقاً منطقياً مع التركيبة السيكولوجية للإنسان على هذه الأرض، التي تتصف بالتراتبية المدنية والمدينية التي أصبحت قيماً وتربية وسلوكاً.
لقد كان السلوك الشمولي للحزب الحاكم في عدن يتوارى في أوقات الصفو والتوافق الداخلي في دوائر الحزب على قلتها في مشروعه المدني القائم على تحقيق الاحتياج الضروري للإنسان في جوانب الأمن والأمان الاجتماعي وترسيخ مداميك إدارة عصرية نمطية في الاقتصاد والمال.
ولذلك كان من المحال أن يرضخ الجنوب لشاكلة حكم كهذه بعد 1994 م، مهما كانت ممارسة القمع بأشكاله المفزعة من سرقة الأرض والوظيفة وتسريح الجيش والأمن وإغراق البلد في باليات عرف القبيلة الشمالية واستنهاض الثأرات والنزاعات داخل مربعات الجنوب بعد أن تجاوزها الحكم السابق، ثم وهو الأخطر زرع (القاعدة)في أرضه انطلاقاً من داخل دوائر الحكم والنفوذ الشمالية لتقوم بعرقلة المشروع القادم لإعادة دولة الجنوب. ولعلنا نذكر يقيناً أن صحيفة مثل «الأيام»
كانت تتموضع في مساحة الهامش المسموح للكلمة بعد الحرب الظالمة في 1994 م، ولما يفق الجنوب من هول الكارثة، لتلعب دوراً تأصيلياً في الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من إرث الدولة المدنية في الجنوب والحفاظ على ما امتازت به عدن على مر السنين كحاضنة مدنية لشعب هذه الأرض، وكانت الجرأة الأدبية للصحيفة محاطة بسياج الكاريزما المتعاظمة للراحل الكبير هشام باشراحيل تعطي أبعادها السياسية المتقاطعة مع ما يمارس على أرض الجنوب، ومن ثم استنهاض القوى الجنوبية الحية وإخراجها من قمقم السكوت والخوف، إلى رفع الصوت وكسر حاجز الصمت للمطالبة بالحقوق المدنية المسلوبة، ولم يكن ذلك ليمر بسلام ودون باهض الأثمان، ولكن “الأيام” وأهلها كانوا يدركون من البداية أنهم في عين العاصفة، وأن باب الحرية لا تدقه إلا الأيدي المضرجة بالدم كما يقول أمير الشعراء.
إن ما تتعرض له «الأيام» من بعض الغوغائيين شيء آثم حقاً، ووجه من أوجه التخبط والغلو في الشعارات التي كنا قد اكتوينا بنارها زمنًا طويلاً، فيوم أن قرر الحكم الوطني إلغاء الآخرين بعد الاستقلال الوطني 1967 م انتهى به المطاف أن يلغي نفسه بنفسه في دورات الصراع المعروفة.
الذين يفكرون في اختزال الجنوب في تجربة ما قبل الوحدة واهمون حقاً، لأن عجلة التاريخ تسير دون توقف، وإن ما هو مطلوب اليوم الاستفادة من كل ما تحقق، بما في ذلك مخرجات الحوار الوطني، والاستناد إليه داخلياً ودولياً لتحقيق طموحات شعبنا في الحياة الحرة الكريمة.
* الأيام