هي انقلاب عسكري لاشك في ذلك، وكنا ندرك أن من أرادوا جعله “ثورة أم”، إنما هم من أفرغ ذلك الانقلاب الوطني، المتقدم في زمنه من متداركات فعله المؤثر عمقا في البناء الفوقي والتحتي في المجتمع، وبالرغم من ذلك جرت مياه نشطة تحت جسور الجمهورية الجديدة الآتية بانقلاب ليلة الخميس 26 سبتمبر 1962م في صميم التبدل العميق من نمطية حكم سلالي انعزالي إلى جمهوري حداثي، وإن تلقفه في ما بعد إرث مذهبي متأصل يرى أن حكم اليمن لا يكون حكما إلا أن تربع سدته إمام عدناني أو رئيس قحطاني من ذات المذهب، فكان البحث عشية الثورة عن ذلك المعنى بالرغم من أن علي عبدالمغني قد كان صانع تنظيم الضباط الأحرار والدينامو المحرك له.
وربما قال قائل إن الحالتين تتشابهان في مصر الملهمة واليمن المتلقية في حالتي نجيب والسلال، وإن الأمر متعلق بالرتب العسكرية المتواضعة لرجال الثورة وحاجتهم إلى وجوه معروفة في القطاعات العسكرية من أصحاب الرتب العليا، وهي وضعية تصح فرضيتها في الحالة المصرية، ولكنها في اليمن لاشك ثانوية ليأتي الجانب المذهبي في المقدمة، بدليل أنه في حالة السلال نفسه لم يكن القبول تاما في الصف الجمهوري لمكانة البيت أو القبيلة التي ينتمي إليها السلال في بنيان الهرم القبلي والتراتبية فيه.
أما وجه التشابه والتماثل بين سبتمبر اليمني ويوليو المصري، وهو بيِّن وواضح كوضوح الشمس في رابعة النهار، فإنه محض صدفة وإدارة ظهر للحقائق التاريخية المثبتة من بعض المتداولين على شأن الجمهورية والثورة ممن استطاعوا أن يستأثروا بالبقرة وحليبها ويختفون خلف شعارات الثورة وأهدافها الستة، التي لم يتحقق منها شيء ذو بال، وأصبح (مفقس) الثورة ينتج آلاف الأئمة المتنفذين في طول البلاد وعرضها ممن يمارسون إمامية بغيضة بحق الملايين من أصحاب المصلحة في الثورة والجمهورية في التهائم والنجود، والجبال والسواحل، فأصبحوا كالأيتام على موائد اللئام.
لم يستطع أول رئيس للجمهورية بعد عودته من منفاه أن يتبول في واحد من حمامات أحد المسئولين الذي استضافه محتفيا بعودته، بسبب الأناقة المبالغ فيها في الحمام المغطى بالرخام الإيطالي الفاخر وبالنوافير وأشياء أخرى لم يعرفها السلال، كما لا نعرفها نحن. وكان أن ترحم السلال على إمام كان له مرحاض عربي، استعان في أواخر حياته بقطعة قماش تدلت من السقف لكي ينهض بعد قضاء حاجته.
أما أسطورة الثورة الأم التي أضفاها منظرو الجمهورية العربية اليمنية على سبتمبر، ليس حبا حقيقيا فيه، وإنما للانتقاص من ثورة أكتوبر في الجنوب، فإننا نعيد إلى الأذهان أن أكتوبر كان ثورة حقيقية وليس انقلابا، وأن التاريخ يصفها بأنها ثالث ثورة في القرن العشرين بعد الثورة الجزائرية والفيتنامية، امتدت من المدينة إلى الريف والعكس، وشاركت فيها قطاعات الشعب من العمال وحركتهم النقابية والفلاحين والمرأة في المدينة والريف والحركة الطلابية والشبابية والتنظيمات السياسية المعلن منها والسري، والقطاعات المدنية الأخرى، ولعبت الصحافة العدنية الحرة دورا في إبرازها، ورجع صداها في كل مكان بالعالم، بما في ذلك بريطانيا العظمى نفسها.
دون أن يعني ذلك نفي الدور الذي لعبته جمهورية سبتمبر في إيجاد العمق الاستراتيجي الداعم لثورة الجنوب، وخاصة من مصر عبدالناصر وجيشها الباسل في اليمن، والذي لولاه لسقطت الجمهورية والثورة كما سقطت قبل ذلك الثورة الدستورية عام 1948م.
ونقول بدون فخر إن ثورة سبتمبر ما كان لها أن تصمد في وجه المناوئين لها لولا الدعم العسكري الضخم الذي سارعت بإرساله مصر العربية بزعامة جمال عبدالناصر. وكذلك بدعم بطولي سخي من رجالات الجنوب، حيث تقاطر الرجال من عدن ولحج والضالع والصبيحة ودثينة وردفان ويافع وشبوة وأبين وغيرها من أرض الجنوب، ممن سطروا ملاحم بطولية في الحيمتين ونقيل يسلح وخولان وبلاد الروس وصنعاء نفسها أثناء حصارها الشهير وفي طريق صنعاء الحديدة وبني مطر وغيرها.
إن كتابة متأنية ومن جهات أكاديمية محايدة لتاريخ الثورة اليمنية سوف يكسبها الحقيقة الغائبة عنها دون ضرر أو ضرار، بعيدا عن هرطقات كتبة السلطة وتنابلة السلطان.
*- عن الأيام