بقلم: العقيد/ محسن ناجي مسعد
من يتأمل بعمق في المشهد الجنوبي الراهن، يدرك أن ما يحدث ليس وليد الصدفة، بل نتاج خطةٍ سياسيةٍ محكمة جرى إعدادها بعناية لبلوغ أهدافٍ خفية ومسبقة. فالأزمات التي تضرب الجنوب — من انقطاع الكهرباء والمياه، إلى انهيار العملة وغياب الرواتب والخدمات — ليست نتاجاً لعجزٍ إداري أو خللٍ طبيعي، وإنما هي أزماتٌ مصطنعة تُدار بعقليةٍ خبيثةٍ تسعى إلى إحكام السيطرة على الجنوب، وإرباك المجلس الانتقالي الجنوبي عبر خلق الأزمات ثم تحميله تبعاتها.
لقد أجاد رشاد العليمي وفريقه إدارة هذه اللعبة بدهاءٍ سياسي لافت. فهم يصنعون الأزمة في الخفاء، ثم يدفعون المجلس الانتقالي إلى مواجهتها في العلن، ليبدو في النهاية وكأنه المسؤول الأول عن كل ما يجري. وعندما يخرج المواطنون إلى الشارع مطالبين بحقوقهم، يجدون أمامهم قوات جنوبية، فتتحول الأزمة المفتعلة إلى صدامٍ داخلي يُصوَّر للرأي العام على أن الانتقالي هو من يقمع أبناء الجنوب، بينما تتوارى الشرعية خلف ستار المظلومية الزائفة وخلف الأكاذيب والترويج الأوهام التي يتم تسويقها للجنوبيين التي لا تمت بصلة للواقع الراهن ولا تلامس بأي صورة من الصور واقع القضية الجنوبية التي لا مكان لها في أجندات الشرعية التي تكن العداء الصراخ لها مثلها مثل الحوثيين الذين يلتقي موقفهم العدائي أيضا مع موقف الشرعية.
بهذا السيناريو المتقن، نجحت منظومة الشرعية في ضرب العلاقة بين المجلس الانتقالي والشارع الجنوبي، وجعلت المواطن يرى في المجلس سبب معاناته، ناسياً أن جذور الأزمات تمتد إلى ما بعد حرب 1994م، حين فرض نظام الاحتلال سياساتٍ منظمة للإفقار والتهميش والإقصاء ضد الجنوب وأبنائه.
وهنا يبرز السؤال الجوهري :
هل أدرك المجلس الانتقالي أبعاد اللعبة التي أُريد له أن يكون طرفاً فيها؟
وهل استوعب فعلاً طبيعة الشراكة التي عقدها مع منظومة ما تزال تمسك بكل مفاصل القرار والمال والإدارة؟
من الواضح أن تلك الشراكة غير المتكافئة كانت مصيدة سياسية أُحكمت خيوطها بعناية، استُغلت لإلقاء كامل المسؤولية على الانتقالي، وإظهاره أمام الناس بمظهر الفاشل والعاجز عن إدارة الجنوب، رغم أنه لا يمتلك السيطرة الفعلية على مؤسسات الدولة ولا يملك الأدوات الكفيلة بمواجهة منظومة فسادٍ متجذرة منذ عقود.
لقد أخطأ المجلس الانتقالي عندما ظن أن الشراكة مع هذه المنظومة ستفتح له باب إصلاحها من الداخل أو تحويلها إلى منصةٍ لخدمة مشروع استعادة الدولة الجنوبية. فالشراكة مع نظامٍ يملك خبرة طويلة في الإقصاء والسيطرة لا تؤدي إلى التحرر، بل تمهد للابتلاع السياسي وتكريس التبعية. فالطرف الشمالي الذي أقام وحدة 1990م لم يتعامل معها كشراكة بين ندّين، بل كوسيلةٍ لابتلاع الجنوب والسيطرة على ثرواته، وهي ذات السياسة التي تُمارس اليوم بأدواتٍ جديدة وأساليبٍ أكثر دهاءً.
لقد أثبتت التجربة أن هذه الشراكة لم تجلب للجنوب سوى مزيدٍ من الأزمات والمعاناة، ومنحت منظومة الاحتلال غطاءً سياسياً للبقاء وإطالة عمر الفساد الذي أنهك الوطن والمواطن معاً.
إن الوقت قد حان للمجلس الانتقالي كي يعيد النظر في هذه الشراكة، وأن يراجع مساره السياسي بجرأة ومسؤولية، فالمضي في هذا الطريق دون وعيٍ بطبيعة اللعبة لن يقود إلا إلى مزيدٍ من فقدان الثقة الشعبية وتراكم الأزمات التي تفتك بالجنوب أكثر فأكثر.
إن تحميل الانتقالي وحده مسؤولية ما يجري تضليلٌ متعمّد، فالأزمات الحالية ليست وليدة اليوم، بل هي نتاج عقودٍ من الفساد والفشل وسوء الإدارة التي جعلت اليمن من أكثر الدول انهياراً. ومع ذلك، تواصل الشرعية تضليل الرأي العام، مدعيةً أن الانتقالي يملك سلطةً مطلقة في عدن تخوله حلّ الأزمات متى شاء، متناسيةً أنها ما تزال تمسك بمفاتيح القرار والمال وتدير اللعبة من وراء الستار.
إن الخروج من هذا النفق المظلم لن يتحقق عبر شراكاتٍ شكلية أو تفاهماتٍ هشة، بل من خلال إصلاحاتٍ جذريةٍ شاملة تُعيد بناء الدولة على أسسٍ وطنيةٍ جديدة وتستأصل الفساد المتجذر في مفاصل الحكم.
فمن دون رؤيةٍ وطنيةٍ واضحةٍ وإرادةٍ سياسيةٍ صادقة، سيبقى الجنوب يدور في حلقةٍ مفرغة من الأزمات، وستظل الشراكة القائمة أداةً لتكريس التبعية لا وسيلةً للخلاص الوطني.
عدن ٢٥ اكتوبر ٢٠٢٥م