*- شبوة برس - حافظ الشجيفي
تشكل قضية الجنوب العربي إحدى الإشكاليات القانونية والسياسية المعقدة في العصر الحديث، حيث تتداخل فيها عناصر القانون الدولي، وحق تقرير المصير، وتاريخ من الاعتراف الدولي السابق، مع وقائع الاحتلال والتحرير. لذلك فان دراسة وضع الجنوب العربي تتطلب الغوص في أعماق المبادئ القانونية الراسخة، وفك اشتباك التاريخ مع السياسة المعاصرة، لتقديم رؤية واضحة تستند إلى المنطق القانوني السليم والأعراف الدبلوماسية الثابتة.
حيث لا ينبغي النظر إلى قضية الجنوب العربي من منظور انفصالي حديث، بل من زاوية دولة مستقلة ذات سيادة تم اغتصاب إرادتها. فبعد استقلال جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية عن الاستعمار البريطاني في 30 نوفمبر 1967، حظيت هذا الكيان باعتراف دولي واسع النطاق، وأصبحت عضواً فاعلاً في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، مما منحها شخصية قانونية دولية كاملة. هذا الاعتراف لم يكن مجرد تصريح دبلوماسي عابر، بل كان إقراراً من المجتمع الدولي بوجود كيان سياسي مستقل يتمتع بجميع مقومات الدولة وفقاً لاتفاقية مونتيڤيديو (1933): سكان دائمون، إقليم محدد، حكومة، والقدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى. هذه الشخصية القانونية لا تتبدد بفعل الاحتلال أو القوة الغاشمة، بل تظل كامنة، تنتظر لحظة إعادة الإحياء.
ومن المعلوم ان وحدة عام 1990 بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية جاءت في سياق تاريخي وسياسي ودولي معين لكن، سرعان ما تحولت هذه "الشراكة" إلى علاقة هيمنة وإخضاع.اذ لم تكن الوحدة اندماجاً طوعياً متكافئاً بين شعبين، بل تحولت، بحسب الوقائع التاريخية الموثقة، إلى عملية استيلاء منهجية بالقوة. حيث قام الجيش الشمالي باجتياح الجنوب عسكرياً في حرب صيف 1994، مما يعني، من منظور القانون الدولي، احتلالاً لأراضي دولة ذات سيادة معترف بها سابقاً. فيما لم يكن طرد الشركاء الجنوبيين من السلطة، والملاحقة السياسية، والاغتيالات التي طالت الكوادر الجنوبية، سوى أدوات لقمع الإرادة السياسية للجنوب وفرض سيطرة أحادية الجانب. وبالتالي، فإن الرباط القانوني للوحدة يكون قد انقطع بفعل هذه الأفعال، لتحل محله حالة من الاحتلال القسري.
وهنا تكمن النقطة الجوهرية في الإشكال القانوني. الاعتراف الدولي هو فعل سياسي في جوهره، وليس تأسيسياً لوجود الدولة. فالدولة تنشئ نفسها بنفسها (نظرية التأسيس) من خلال توافر العناصر الموضوعية (الشعب، الجغرافيا، السلطة الفعلية). اما الاعتراف فهو مجرد إقرار من دول أخرى بهذا الواقع الجديد، وهو إقرار انفرادي وتقديري.
ففي حالة الجنوب العربي، نحن لا نتحدث عن "اعتراف جديد" بكيان لم يسبق له وجود، بل عن إعادة إقرار (اعادة التاكيد) علي الشخصية القانونية القائمة أصلاً والمعترف بها سابقاً. فالدول التي تعرضت للاحتلال واحتفظت بهويتها وكفاحها من أجل التحرر – كما هو الحال مع دول البلطيق التي احتلتها الاتحاد السوفيتي – لم تحتاج إلى "اعتراف جديد" عند تحررها، لأن شخصيتها القانونية ظلت قائمة (بحكم القانون) حتى لو كانت معطلة (عملياً). والمجتمع الدولي، بهذا المعنى، مدعو ليس لخلق دولة، بل للاعتراف بعودة دولة قائمة إلى الساحة الدولية.
ويؤكد ميثاق الأمم المتحدة والعهدين الدوليين لحقوق الإنسان على أن حق تقرير المصير هو حق غير قابل للتصرف لجميع الشعوب. وهذا الحق يشمل، كما فسرته الأعراف والممارسات الدولية، الحق في اختيار النظام السياسي، وفي تقرير المصير الخارجي بما في ذلك الحق في الوحدة أو الانفصال، خاصة في حالات القمع المنهجي والاحتلال والتمييز. ونضال شعب الجنوب العربي، بتضحياته الجسام على مدى عقود، وباستخدامه كافة وسائل التعبير السلمية منها وغير السلمية في مواجهة قمع ممنهج، يمثل تجسيداً عملياً لإرادة لا لبس فيها. فقد مارس الشعب الجنوبي حقه في تقرير المصير عملياً من خلال تحرير أراضيه وإقامة سلطة فعلية عليها، مما وفر جميع مقومات الدولة بحكم الواقع.
إن الوجود الحالي لما يسمى "حكومة الشرعية اليمنية" في اجزاء من الجنوب لا يقوم على أساس شرعية الوحدة المنقوضة، بل على أساس اتفاق سياسي مرحلي ومحدود الأجل، وهو اتفاق الرياض (2020) بين المجلس الانتقالي الجنوبي وتلك الحكومة. وهذه الشراكة، التي كان هدفها المعلوم مواجهة تهديدات ميليشيا الحوثي، لا تعكس بأي حال من الأحوال العودة إلى وضع الوحدة السابق. فهي مجرد تحالف تكتيكي في مواجهة عدو مشترك، وقد منحت اتفاقية الرياض شرعية مؤقتة ومشروطة لهذا التواجد، وهي شرعية قابلة للزوال بمجرد زوال الغرض منها أو انتهاء مدتها، وهي لا تلغي بأي صورة الحقوق التاريخية أو القانونية للجنوب العربي في استعادة دولته الكاملة.
ان الجنوب العربي ليس مشروعاً انفصالياً يبحث عن شرعية، بل هو دولة ذات تاريخ وحضور قانوني دولي سابق، تعرض للاحتلال، وناضل شعبه لاستعادة حريته وحقه المسلوب. فإعلان استقلاله هو استعادة للسيادة وليس إنشاء لها.والاعتراف الدولي، وإن كان مهماً للاندماج في النظام الدولي، فهو مجرد إجراء وليس حق لتكريس واقع قائم، كما انه ليس شرطاً لوجود هذا الواقع. ومسؤولية المجتمع الدولي، انطلاقاً من مبادئه التي يدعي الدفاع عنها، ليست في اختراع حلول، بل في الاعتراف بالحقوق والإرادة التي أرساها شعب الجنوب العربي على أرض الواقع، وبالشخصية القانونية التي لم تُسقطها سنين الاحتلال والغصب. فالمستقبل يحمل في طياته دعوة للدبلوماسية الدولية لمواءمة سجلها القانوني مع الحقائق الثابتة على الأرض، والاعتراف بعودة دولة كان لها، ولا يزال، مكان تحت شمس السيادة الدولية.