الرئيس الأمريكي دونالد ريجان يستثبل قادة الفصائل الافغانية
*- شبوة برس - د. علي دربج
صحيح أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان قد أسدل الستار على حقبة من الاحتلال المباشر لهذا البلد. لكنه لا يمكن أن يمحو من ذاكرة الأفغان الصفحات السوداء الحافلة بالمؤامرات التي دبرتها اميركا لوطنهم، وخطّتها بدمائهم، وجعلتهم بالتالي وقودًا لحروبها الاستخبارية والعسكرية ولمخططاتها التي أوجدت لهم "طالبان" وغيرها من الفصائل الأفغانية المتطرفة، وجعلتهم ماردها الذي خرج من فانوس مصنوع في غرف CIA، كتعويض عن خسارتها ايران بعد الثورة، بمشاركة باكستانية وسعودية، ليتحول الى سلاحها الأمضى الذي واجهت به واشنطن الاتحاد السوفياتي عدوها اللدود آنذاك على أرض أفغانستان، قبل أن ينقلب السحر على الساحر لاحقًا وتصبح "طالبان" العدو الأول المطلوب استئصالها، لتعود بعد 20 عامًا وتسلمها شؤون البلاد والعباد هناك.
إنها اللعبة، التي خبرها حتى المواطنون الأفغان العاديون عن كثب، بعضهم قد عايش اللحظات الأولى للتدخل الأميركي في هذا البلد وصناعتها للحركات "الاسلامية" المتطرفة والتكفيرية في أفغانستان خصوصًا "طالبان" (والذي سنقوم بالإضاءة عليه بشكل جليّ عبر حلقات ينشرها موقع "العهد" للوقوف على خلفيات اختيار الولايات المتحدة لهذه الدولة، واعتمادها منطلقًا لمقارعة روسيا ثم هزيمتها، ودور كل من الرياض واسلام اباد في هذا الأمر).
نادرًا ما أجاب أحد من المسؤولين في الادارات الاميركية المتعاقبة، على أسئلة راودت أذهان الكثير من الأميركيين نخبًا وأفرادًا عاديين، مثل " كيف خضنا حربنا الأفغانية الأولى وبالتالي خلقنا عالمًا مهيأً لحربنا الأفغانية الثانية أي (اجتياح افغانستان)؟ لماذا على مدار العقود السابقة انتهى بأميركا المطاف بشن حروب في بلد لم يكن سوى عدد قليل من الأمريكيين قد أولى اهتمامًا به من قبل؟ وكيف استطاعت واشنطن تسليح ودعم فصائل كاملة من الإسلاميين التكفيريين في أولى تلك الحروب، الذين تحولوا فيما بعد الى أعداء في الحرب الثانية؟ وكيف انتهى الأمر بواشنطن بالطائرات المخطوفة وهي تحطم الأبراج على الأراضي الأميركية في عام 2001؟ وكيف، رداً على ذلك، أطلقت "حرباً عالمية على الإرهاب" لا يوجد أي بوادر في الأفق على انتهائها؟
في كتابه المهم عن أفغانستان تحت عنوان "حروب الأشباح: التاريخ السري لوكالة المخابرات المركزية وأفغانستان وبن لادن، من الغزو السوفياتي حتى 10 ايلول 2001"، يقتبس ستيف كول (كان مدير مكتب جنوب آسيا في صحيفة واشنطن بوست بين عامي 1989 ــ 1992) من الرئيس الأفغاني حامد كرزاي عبارة: "يا له من بلد سيئ الحظ". قد يجد الأمريكيون هذا طريقة مناسبة لتجاهل ما فعلته حكومتهم في أفغانستان بين 1979 والوقت الحاضر، لكن الحظ لا علاقة له بذلك.
في الواقع نحن نعيش وسط حطام عالم تغير بشكل جذري من خلال قرارات واشنطن الأفغانية في الثمانينيات، ومن يدري من تسلح أميركا بالضبط هذه الأيام، وبأي تكلفة أو انها تهدر مالها كما حصل مع الجيش الأفغاني، وبالتالي تضع الأساس لمزيد من الكوابيس.
عند العودة لوثائق أرشيف الأمن القومي الاميركي، رُفعت عنها السرية في تسعينيات القرن الماضي، سنكتشف حقائق مهولة وصادمة بقيت طي الكتمان لعقود، حيث أوضح مدير وكالة المخابرات المركزية السابق روبرت جيتس في مذكراته التي نُشرت عام 1996 أن "أجهزة المخابرات الأمريكية بدأت في مساعدة "المجاهدين" ليس بعد الغزو السوفياتي، ولكن قبل ستة أشهر من الاحتلال السوفياتي".
ليس هذا فحسب، ففي مقابلة مع مجلة لو نوفيل أوبسرفاتور الأسبوعية الفرنسية، بعد ذلك بعامين، أكد مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي "بفخر كلام جيتس"، قائلا "وفقًا للرواية الرسمية للتاريخ، بدأت مساعدة وكالة المخابرات المركزية للمجاهدين خلال عام 1980، أي بعد غزو الجيش السوفياتي لأفغانستان". وأضاف بريجنسكي "لكن الواقع، الذي ظل سراً حتى الآن، مختلف تمامًا: في 3 تموز 1979، وقع الرئيس كارتر أول توجيه للمساعدة السرية لمعارضي النظام الموالي للسوفييت في كابول. وفي اليوم نفسه، كتبت ملاحظة إلى الرئيس أوضحت فيها أن هذه المساعدة في رأيي ستؤدي إلى تدخل عسكري سوفياتي".
وردا على سؤال المجلة عما إذا كان يشعر بالندم بأي شكل من الأشكال على هذه الأعمال، أجاب بريجنسكي: "نأسف على ماذا؟ كانت العملية السرية فكرة ممتازة. لقد دفعنا بالروس إلى الفخ الأفغاني وتريدون مني أن أندم عليه؟ في اليوم الذي عبر فيه السوفييت الحدود رسميًا، كتبت إلى الرئيس كارتر، قائلًا، في الجوهر: "لدينا الآن فرصة لإعطاء الاتحاد السوفياتي حربه في فيتنام".
وتابعت أوبسرفاتور "ولا أنتم نادمون على دعمكم للأصولية الإسلامية، التي قدمت السلاح والنصائح لإرهابيين في المستقبل؟ هنا سأل بريجنسكي: ما هو الأهم في تاريخ العالم؟ طالبان أم انهيار الإمبراطورية السوفياتية؟ بعض المسلمين المهتاجين أم تحرير وسط أوروبا ونهاية الحرب الباردة؟ ".
بعد كل ذلك، اصبح واجبًا القول ان الغزو السوفياتي لتلك الدولة عشية عيد الميلاد عام 1979، كان عبارة عن فخّ اميركي متعمد ومدبر، خططت له CIA بحرفية كبيرة، وسار نحوه الاتحاد السوفياتي برجليه بخطى ثابتة، وبالطبع كان بريجنسكي بكل تأكيد مع آخرين في الادارة الاميركية ممن نصبوا هذا الشرك في ذلك الوقت، حيث كانت النتيجة انتاج "مسلمين تكفيريين"، وكانت العواقب واضحة منذ ذلك الحين.
العقل الاميركي الذي قاد الحرب الخفية ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، ونجح بإخراجه منها، (عبر مجاهدي أو بالأحرى تكفيريي اميركا)، انما انطلق من "رد الفعل"، هذا المصطلح الذي ظهر لأول مرة في تقرير سري لوكالة المخابرات المركزية بعد عملية الإطاحة بالحكومة الإيرانية في عام 1953، والتي تم تنفيذها لصالح شركة بريتيش بتروليوم.
في عام 2000، لفت جيمس رايزن من صحيفة "نيويورك تايمز"، الى انه "عندما ساعدت وكالة المخابرات المركزية في الإطاحة بمحمد مصدق رئيس وزراء إيران في عام 1953، بما يضمن 25 عامًا أخرى من الحكم للشاه محمد رضا بهلوي، كانت CIA تدرك بالفعل أن جهدها الأول الإطاحة بحكومة أجنبية، لن يكون آخرها.
آنذاك كانت وكالة المخابرات المركزية في السادسة من عمرها، وملتزمة بشدة بالفوز في الحرب الباردة، وتنظر إلى عملها السري في إيران على أنه مخطط لمؤامرات انقلابية في أماكن أخرى حول العالم.
وفقًا للتفكير السوفياتي، كانت أفغانستان هدفًا طبيعيًا للولايات المتحدة. في شباط 1979، أجبرت الثورة الإيرانية الحليف الأمريكي القديم الشاه محمد رضا بهلوي على التنازل عن العرش. كان ظهور نظام معاد بقيادة آية الله الإمام روح الله الخميني بمثابة ضربة مدمرة للولايات المتحدة في منطقة حيوية من العالم. بدوره الكرملين انتابه القلق من أن تحاول واشنطن تعزيز بعض نفوذها المفقود عبر أفغانستان (والأهم من ذلك، إيجاد موقع بديل لمواقع المراقبة شديدة السرية التي احتفظت بها في إيران لتتبع أنشطة الصواريخ السوفياتية).
على اثر هذه الاحداث بدأت وكالة المخابرات المركزية بسلطة رئاسية كاملة، أكبر عملية سرية لها على الإطلاق: التسليح السري "لمقاتلي الحرية الأفغان" لشن حرب بالوكالة ضد الاتحاد السوفياتي، والتي تضمنت تجنيد وتدريب مقاتلين من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وهو ما ذكره ستيف كول في كتابه الذي تكمن أهميته بمنحه حق الوصول إلى المخطوطة الأصلية لمذكرات روبرت غيتس (كان غيتس مديرًا لوكالة المخابرات المركزية من 1991 إلى 1993)، لكن مصدره الرئيسي هو حوالي مائتي مقابلة أجريت بين خريف عام 2001 وصيف عام 2003 مع العديد من مسؤولي وكالة المخابرات المركزية وكذلك السياسيين والضباط العسكريين والجواسيس من جميع البلدان المعنية باستثناء روسيا. كان العديد من مقابلاته الأكثر أهمية مسجلة وقد اقتبس منها على نطاق واسع من بين الشخصيات البارزة التي وافقت على إجراء المقابلات بنظير بوتو، التي صرحت بأنها كذبت على المسؤولين الأمريكيين لمدة عامين بشأن مساعدة باكستان لطالبان، وأنتوني ليك، مستشار الأمن القومي الأمريكي من 1993 إلى 1997، الذي سمح بذلك. من المعروف أنه يعتقد أن مدير وكالة المخابرات المركزية جيمس وولسي كان "متعجرفًا" ويكره كلينتون لدرجة أنه عندما تحطمت طائرة طيار انتحاري ــ على ما يبدو طائرة سيسنا ذات محرك واحد في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض في عام 1994 ـــ أشار المهرجون إلى أن مدير وكالة المخابرات المركزية قد يكون يحاول الحصول على موعد مع الرئيس.
ومن بين أفراد وكالة المخابرات المركزية الذين تحدثوا إلى كول جيتس. وولسي. هوارد هارت، رئيس محطة إسلام أباد عام 1981؛ كلير جورج، الرئيس السابق للعمليات السرية، ويليام بيكني، رئيس محطة إسلام أباد من 1984 إلى 1986، كوفر بلاك، رئيس محطة الخرطوم منتصف التسعينيات ومدير مركز مكافحة الإرهاب 1999-2002. فريد هيتز، المفتش العام السابق لوكالة المخابرات المركزية؛ توماس تويتن، نائب مدير العمليات، 1991-1993؛ ميلتون بيردن، رئيس المحطة في إسلام أباد، 1986-1989؛ دوان ر. "ديوي" كلارريدج، رئيس مركز مكافحة الإرهاب من 1986 إلى 1988؛ فينسينت كانيسترارو، ضابط في مركز مكافحة الإرهاب بعد فترة وجيزة من افتتاحه في عام 1986؛ وكول رسمي يُعرِّف فقط باسم "مايك"، رئيس "وحدة بن لادن" داخل مركز مكافحة الإرهاب من عام 1997 إلى عام 1999، والذي تم الكشف عنه لاحقًا على أنه مايكل إف شوير، المؤلف المجهول لكتاب "الغطرسة الإمبراطورية: لماذا يخسر الغرب الحرب على الإرهاب".
يأخذنا كول في كتابه الى العام 1973، عندما أطاح الجنرال سردار محمد داود، ابن عم وصهر الملك ظاهر شاه، بالملك، وأعلن أفغانستان جمهورية، وأسس برنامجًا للتحديث. تم ابعاد ظاهر شاه إلى المنفى في روما. أدت هذه التطورات الى ظهور "حزب الشعب الديمقراطي لأفغانستان " وهو حزب شيوعي موالٍ للسوفييت، كان أطاح بالرئيس داوود خان، في أوائل عام 1978 بمساعدة واسعة من الاتحاد السوفياتي.
أثارت سياسات العلمنة التي انتهجها الشيوعيون برئاسة حفيظ الله أمين، بدورها، رد فعل عنيفًا من قبل الإسلاميين المتدينين. نشأت الثورة المناهضة للشيوعية التي بدأت في هرات في غرب أفغانستان في آذار 1979 بمبادرة حكومية لتعليم الفتيات القراءة.
في هذا الوقت، كانت موسكو تراقب الوضع بقلق، وتدرس جديا طلبات امين والحزب الشيوعي المتكررة بغزو افغانستان والذي سرّعه بحسب الوثائق السوفياتية (التي افرج عنها في تسعينيات القرن العشرين)، خوف موسكو الحقيقي من أن يصبح حفيظ الله سادات آخر (اي مثلما فعل الرئيس المصري الاسبق انور السادات في عام 1972 وقيامه بطرد الآلاف من المستشارين السوفييت، وأصبح بالتالي ثاني أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأمريكية بعد إسرائيل ويتجه نحو الولايات المتحدة)، وقد عزز ذلك الشكوك المتزايدة للسوفييت من أن أمين كخائن محتمل قد يخطط "لتغيير الخط السياسي لأفغانستان في اتجاه يرضي واشنطن" أو ما هو أسوأ". تقول احدى الوثائق "لقد تلقينا معلومات حول أنشطة أمين وراء الكواليس والتي قد تعني إعادة توجيهه السياسي تجاه الغرب. إنه يبقي اتصالاته مع القائم بالأعمال الأمريكي سرا منا".
على اثر ذلك، تم اتخاذ القرار الفعلي بالغزو سراً من قبل مجموعة صغيرة جدًا من أعضاء المكتب السياسي السوفياتي، في ظل معارضة قوية وصريحة للجيش الروسي.
أما الأصوليون الأفغان المعارضون لسياسات النظام الشيوعي وللوجود السوفياتي، فكانوا مدعومين من قبل ثلاث دول - الولايات المتحدة وباكستان والسعودية - بدوافع متنوعة تمامًا، لكن اميركا لم تأخذ هذه الاختلافات على محمل الجد إلا بعد فوات الأوان. بحلول الوقت الذي استيقظ فيه الأمريكيون، في نهاية التسعينيات، كانت حركة طالبان قد أقامت حكومتها في كابول. لم تعترف بها سوى باكستان والسعودية والإمارات العربية المتحدة، ثم ما لبثت أن منحت أسامة بن لادن حرية التصرف وقدمت له الحماية من الجهود الأمريكية للقبض عليه أو قتله. وجميعا يعرف كيف انقلب المارد الافغاني التكفيري على ربيبه الاميركي، وأصاب الولايات المتحدة في عقر دارها في 11 ايلول.
من هنا، نعي سريعًا أن هناك خطًا مباشرًا بين هجمات 11 سبتمبر 2001 ـــ أهم مثال على رد الفعل العكسي في تاريخ وكالة المخابرات المركزية ــ وأحداث عام 1979.
*- - باحث عربي ومحاضر جامعي
*- الجزء الثاني: اميركا وتمويل الفصائل الافغانية الاسلامية المتطرفة