بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابيّة، هرع كبار فلاسفة ومثقفي فرنسا وبجسارةٍ نادرةٍ للتصدّى للهجمة الشرسة التي شنتها بعضٌ من وسائل الإعلام ليس على كل ما هو إسلامي لتكريس حالة متأصلة من "الإسلام فوبيا" فحسب واعتبار "الإسلام" هو المصدر الوحيد الذي يتحمل المسئوليّة الكاملة عن شكل ونوعيّة مثل هذا الإرهاب، ولكن الدفع بالتحليل/الاتهام ـ عند البعض ـ إلى نقطة أبعد من ذلك مستغلين التأثير الجارف الذي خلفته هذه الحادثة، لتطال كل "إنسان مسلم" وُجِد على هذه البسيطة بغض النظر عن معتقداته وتوجهاته وطريقته في السلوك والحياة، أو بعبارة أخرى خلق فضاءٍ عامٍ قاتمٍ مليءٍ بـ"المسلم فوبيا".
وقد يكون الأمرُ هيناً في الأولى، حالة "الإسلام فوبيا"، أي أن المشكلة تكمن أساساً في النصوص، وعلى أكثر تقدير في جوانب من الموروث الثقافي، وهي حالة يُمكن معالجتها وتعديلها وتصحيحها متى ما توفرت النوايا الصادقة لدى الجهات المسئولة في العالم الإسلامي، وقادت الدفة نحو إصلاحات جذريّة مؤثرة وعميقة.
والحقيقة أنها مشكلة موجودة بالفعل ومن الغباء المكابرة وعدم الاعتراف بها أو القول بكونها "مفتعلة" وكما يحاول بعصبية بعضٌ من مثقفي المسلمين الرد كل الوقت لدحض ما يرونه "ليس أكثر" من تهمٍ مغرضةٍ! بل هي موجودة بعمقٍ وباتت تُطال تأثيرتها الكارثية الجزء الأكبر من المسلمين أنفسهم في كل أرجاء العالم، وعلى وجه الخصوص الاقليات المذهبية والعرقيّة.
فيما يُحاول المفهوم الثاني القول بإن "المسلم" إرهابي بطبعه، أي وكأن النزوع الإرهابي هو موضوع جيني يصعب معالجته والسيطرة عليه، فكل مسلم هو "إرهابي كامن" ينتظر أن تتوفر له الظروف المناسبة للإنطلاق في عوالم الإرهاب والتطرف.
في عمق هذا الجدل الهائل ظهر فلاسفة فرنسا دفعةً واحدةً لتحليل الظاهرة الإرهابيّة، أو لنقل لتحليل أبعد من ذلك، وأقصد ما أطلق عليه فيلسوف ما بعد الحداثة جان بورديار "روح الإرهاب" وكان عنوان كتابه، بجانب سلسلة مقالات لعالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو
ومُنظّر التفكيكية الأبرز الفيلسوف جاك دريدا وغيرهم. كل ما كتبوه، خصوصاً الثلاثة المُشار إليهم، كان علامة فارقة في تحليل الظاهرة الإرهابية، أسبابها ودوافعها وسياقاتها التفاعليّة بالتأثير والتأثر، بل هو أعمق ما كُتب على الإطلاق في هذا الشأن متكئاً على مرجعيات إنسانيّة وقيميّة جليّة.
اليوم، وعلى إثر الجرائم الإرهابيّة المهولة التي حدثت يوم أمس في باريس، أحاولُ أسترجاع ما كتبه بورديار في مرافعة جليلة وآخاذة محاولاً أن يشق طريقاً للتحليل ومقاربة الظاهرة وسط مناطقٍ شائكةٍ جداً، وملتبسة، وربما كانت ستجر عليه كثيراً من الضرر المادي والمعنوي هو في غنى عنه، فمقاربته جاءت بعد زمنٍ قصير جداً من أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابيّة وربما كانت دماء الضحايا لم تجف بعد.
هكذا كتب بورديار في تحليله لـ"روح الإرهاب": " يتجاوز الأمر كراهية القوة العالمية المسيطرة لدى المحرومين والمستغلين تجاوزاً كبيراً، لدى اولئك الذين وقعوا في الجانب السيئ من النظام العالمي. إن الحساسيّة إزاء كل قوة نهائيّة هي حساسيّة عامة. فلا حاجة لغريزة موت أو تدمير، ولا حتى لتأثيرٍ فاسدٍ. إذ بصورةٍ منطقيّةٍ جداً، وبصورةٍ حتميّةٍ جداً، يستثير تضخم القوة الإرادة لتدميرها"
في تلك الفترة العصيبة، كان مثقوفو فرنسا، بلد الحرية والأخوة والمساواة ، يقومون بدورهم الطبيعي على أكمل وجه في تنوير الرأي العام العالمي وتفكيك ملابسات وتداعيات وتبعات مثل هذه الأحداث الكارثيّة الهائلة التأثير، دروٌ لم يستطع أهل الشأن انجاز ما يُساوي 5% منه على أكثر تقدير مُبالغ!
لكن كان هذا هو الوجه الحضاري والثقافي لفرنسا بلد النور والجمال.
فما عسى المرء أن يقول اليوم، وهذا الأعمال الإرهابية الجبانة والحقيرة تضرب بلا هوادة باريس؟ ما عسانا أن نقول لبوورديار وبورديو ودريدا الذين ظلت وستظل أثارهم الجليلة حاضرة بيننا بينما صارت أجسادهم اليوم في علم الغيب؟
آآآآآآآآه يا باريس، ما أقسى وأقذر الإرهاب وهو يَعصُر قلبكِ الطري، الغض، البهي، المشتهى، بلا رحمة!
عزاؤنا الكامل والخالص لأسر الضحايا، وتضامننا بلا حدود.
*- بقلم أمين اليافعي