تمر بلاد اليمن باوقات عصيبة جدا ودقيقة وهي في منعطف خطير لا احد يستطيع ان يتوقع ما ستئول اليه الامور في هذه الحرب ذات الابعاد الثلاثة والتي هي البعد الاول اقليمي بدون ادنى شك والبعد الثاني شمالي - شمالي و البعد الثالث شمالي جنوبي.
لكننا لا زلنا نتعشم ونأمل ان تنتهي هذه الحرب بنصر حاسم ضد عصابات الحوثي ومليشات المخلوع لكي يحل السلام والامن في المنطقة.
كما في أغلب الحروب لابد ان تنتهي بعمل سياسي او حلول سياسية شرط الذهاب الى عمق وجوهر اسباب الصراع الحقيقية التي دون حلها ستبقى جمر الصراع تحت رمادها حتى يشعر الطرف مهزوم هذه المرة أنه استعاد قوته في وقت لاحق ويقوم بتفجير الحرب من جديد وحتى لا نظل نتحدث في العموميات لا بد لنا من الاقتراب بمنهجية علمية لتحديد اسباب كل الصراعات التي شهدها هذا الاقليم منذ ما يزيد عن خمسون سنة .
منذ نشوء الكيان السياسي المعروف باليمن على يد الامام "يحي بن محمد حميد الدين" في منتصف عشرينيات القرن الماضي تأسس نظام الحكم فيها على اساس توزيع النفوذ بمقادير حددها الامام واعطى جزء منها لشيوخ القبائل التي دخلت في الولاء له , والتي لم تدخل تحت طاعته اتخذ معها اسلوب القمع واخذ الرهائن وجزء اخر لعساكره حيث ولاهم مسئولية قمع اي معارضة له دون حساب حتى جاء انقلاب 1962م على يد عسكر الامام في اطار موجة الانقلابات التي عمت دول كثيرة في الوطن العربي وظن البعض ان حكام صنعاء الجدد سينقلونها الى حكم اكثر عدلا ومساواة واستعادة النفوذ الذي منح للقبائل والعسكر الى يد الدولة وهذا هو السبب الاول لهذه الصراعات.
غير ان اياً من هذا لم يتحقق وشهدت فترى الستينات حروب دامية دامت 8 سنوات ذهب ضحيتها اكثر من 250 الف قتل انتهت بالمصالحة في عام 1970م التي اعادت تقاسم نفوذ الدولة وسلطتها بين قوى النفوذ التاريخية ( عسكر, جماعات دينية وشيوخ قبائل) من جديد بعد ان حاول العسكر في فترة ما بعد 1962م حصر النفوذ فيهم وفشلوا.
في منتصف السعبينات عاد العسكر من جديد ولكن من خلال وجه جديد هو ابراهيم الحمدي وعمل من سنته الاولى على استعادة نفوذ الدولة من تلك القوى ولكنها لم تمهله كثير فبعد اقل من اربع سنوات تخلصت منه بعملية اغتيال وضيعة لتبقى الامور عائمة لمدة عام قتل فيه الغشمي خليفة الحمدي وتولي علي صالح الحكم في يوليو 1978م وتعهد لشيخه الاحمر بتقاسم النفوذ من جديد وبعدها بسنوات تحالف مع الاخوان المسلمين ليعود توزيع النفوذ من جديد بشكل واضح بين تلك القوى حتى يتمكنوا من قمع المعارضة المحتدمة في المناطق الوسطى .
لقد اسهمت هذه السياسة التي اتبعها حكام صنعاء من افراغ الدولة من محتواها السيادي والوظيفي وأصبحت مجرد هيكل فارغ موجود في العلم الرسمي والنشيد والاعلام ( إذاعة وتلفزيون) ولكن نفوذها وسلطاتها ومسؤلياتها السيادية والاقتصادية والامنية والاجتماعية والقضائية بيد هذا الثالوث فظهرت السجون الخاصة والتحاكم خارج القضاء الرسمي وتوزيع مقدرات الاقتصاد بين هذه القوى مما ادى الى استبعاد الغالبية العظمى من السكان والمناطق من خدمات الدولة في التنمية وتقديم الخدمات والتي باتت حكرا على فئات بعينها طبقيا ومناطقيا وقبليا.
لذلك فان سقوط الدولة في عام 2015 لم يكن مفاجئً للمراقبين الحصيفين العارفين بطبيعة الحكم والدولة في صنعاء بعد ما جرى في الفترة من 2011-2014م وسقوطها المريع الذي اثبت ان مؤسسات الدولة الوطنية كالقوات المسلحة والامن لا تتبع الدولة ولا تأتمر بأمر من يحكم البلاد وانما بمن توالي من قادتها وعلى رأسهم علي صالح الذي دعم هذا التوجه في اوساطه بحيث لا تكون جزء من الدولة بل تتبعه هو ومن معه.
من هذا الاستعراض السريع اعتقد ان أس مشاكل هذا البلد تكمن في تركيبة الدولة الضعيفة ومن الاسهام في عدم انزلاق البلد الى حروب داخليه مستقبلية لابد من اعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها الوطنية على أسس تخرجها من محاصصة النفوذ التاريخي وتأسيسها على اساس دولة المواطنة, .. من دون ذلك لن يكون هناك مستقبل لهذا البلد وبما يستتبعه من صدى وآثار اقليمية مع سهولة التسلل إليه من اي قوى اقليمة أو دولية أخرى وهو ما أثبتته الاحداث الحرب الاخيرة التي شهدت على محاولات ايرانية الدخول الى البلد وتمكين عملاءها من احكام سيطرتهم عليها حتى تكون صنعاء خنجر في خاصرة الامة العربية من خلال بوابتها الجنوبية بعد ان سيطرت على البوابة الشرقية ( العراق) ومحاولته السيطرة على بوابتها الشمالية في سوريا.
أما السبب الثاني فهو القضية الجنوبية وسيكون لنا حديث عنها في وقت اخر.
* أكاديمي وباحث وكاتب سياسي