(إلى شهيدي الاستقلال الأخيرين: المهندس خالد الجنيدي والدكتور زين محسن)
(1)
كنت قد شرعت في كتابة مقال مستوحاة فكرته مما ورد في مقابلة مهندس الهيمنة اليمنية على الجنوب، ومشاريع ابتلاعه وهضمه، د. عبدالكريم الإرياني، ولاسيما قوله إن "الإقلمين انفصال مؤجل وأنا أفضل “ المعجل “ على “ المؤجل"، لولا أن صدمة إعدام الشهيد خالد الجنيدي، أجّلت كتابته. لكني أعود إليها الآن بعد قراءة مقال أخي العزيز أحمد عمر بن فريد "من وحي مقابلة الارياني .. حتى لا نؤجل المعجل"، الذي أجدني متطابقاً مع طرحه الحصيف، والواقعي، والناظر إلى تعقيدات المشهد الجنوبي وآفاقه من داخله.
فكرة المؤجل والمعجل، وبعد كل ما حدث، ليس معنياً بتأملها أحد من الجنوبيين، أكثر من مروّجي "أحلام" الإرياني، ولا أعني هنا المرتبطين مباشرة بنسيج نظام الاحتلال، فهؤلاء زنقوا أنفسهم بإرادتهم، حتى باتوا غطاءً لكل الانتهاكات في الجنوب، ويضفون شرعية شكلية، أمام العالم، على محتل لا شرعية له، ولكنني أعني ما قصده الإرياني وهو خيار الفيدرالية المزمنة ثم الاستفتاء على تقرير المصير، الذي تبناه مؤتمر القاهرة 2011م، وهو الخيار الذي ظل يناور سياسياً، ولكن في المكان الخطأ، بإسقاطه الافتراضي لواقع الاحتلال، ومقاربة القضية على أنها أزمة سياسية بامتياز أو جيد جداً، وتقبل التسوية السياسية، بإنشاء دولة اتحادية من إقليمين لمدة محددة، ثم يستفتى الجنوب على البقاء في الوحدة من عدمه، وهنا مكمن الخلل في هذا المشروع الذي أحدث شرخاً عميقاً في المشهد، وأظهر الجنوب على أنه مقسم على خيارات، وحدوية – فيدرالية - استقلالية، مع أننا ندرك أن لا أحد يرتضي لبلده أن يبقى محتلا، أو ملحقاً بالكيفية الراهنة، على أن نتعاطى مع الموضوع بعيداً عن خطاب التخوين، أو التقليل من أي اجتهاد سياسي، ولكن حينما تثبت الوقائع والمتغيرات عدم صلاحية هذا الاجتهاد أو ذاك، فإن المنطق السياسي والوطني، يقول بضرورة مراجعته وتطويره، أو الانتقال به إلى مستوى أعلى.
(2)
لن أفصّل في هذا المجال، ولكني أركز الفكرة في نقاط محددة، آملاً أن يكون هناك نوع من التسامي الوطني، والاشتغال السياسي الحصيف، الذي لا يضيع الفرص التاريخية فرصة بعد أخرى في تجريب خيارات، غير قابلة للوجود إلا في "الأحلام" كما قال الإرياني، وهو ينطق بلسان حال أولئك جميعاً، وهم الطرف الذي يراد لشعبنا أن يتفدرل معه تفدرلاً مزمناً على أمل الاستفتاء المحلوم به على تقرير المصير الموعود:
1- فكرة الإقليمين، لا يقبل بها أحد في الطرف المقابل، لأنها تعني بتعبيرهم "انفصالاً مؤجلاً"، وفي كل الحالات، سواء قبلوا تكتيكياً بالفكرة أم لم يقبلوا، فإنهم في الحالتين، سيفرغون هذه الفكرة "الرومانسية" المتطوع بها من بعض السياسيين الجنوبيين، من أي محتوى، بحيث تكون هدنة سياسية مزمنة يستطيعون خلالها، ترتيب أوراقهم، باعتبار أنك أسقطت فكرة الاحتلال من أساسها، وعدت إلى "الزريبة" الاتحادية، بتعبير المهندس حيدر العطاس، وإذ تعود إليها، فإن " دخول الحمّام مش زي خروجه" بتعبير إخواننا المصريين، وأولئك دهاة في الوحدة، ماكرون في الفدرلة، ميكافيليون في سبيل بقاء الجنوب مهضوماً، يعلف "القات" الاتحادي في الزريبة الوطنية.
2- فكرة الأقاليم المتعددة، مهما يكن العدد، قد يناور عليها أولئك، ليس حباً في إصلاح النظام السياسي وبناء دولة مدنية حديثة، كما هو الحلم اليمني إعلامياً، وإنما لإضعاف الموقف جنوباً، فمن أعلن الجنوب إقليمين، إنما هدف إلى التفكيك، ليسهل عليه الهضم الكامل، مستفيداً من إثارة عداء مفتعل بين تكوينات الجنوب السياسي السابق، ليبدو ظاهرياً، خيار إقليم حضرموت في دولة اتحادية يمنية مثلاً، ملبياً لـ"تطلعات حضرمية" للانفكاك من تبعية شمولية لدولة الجنوب السابقة التي لا يمكن أن تعاد فصولها باي حال من الأحوال، في حين أن خيار الأقاليم، في الواقع، هو توكيد ليمننة حضرموت، لمزيد من استنزاف ثرواتها المنهوبة، من عتاولة صنعاء، الذي سيستمر عبر وكلائهم المحليين في الإقليم. ولأن المحتل يشتغل على التباينات وأخطاء المراحل السابقة، فإنه يظهر "مظلومية" حضرموت وكأنها مع دولة الجنوب السابقة، وليست مع المحتل اليمني، الذي يناور الآن، من أجل إنجاز آخر عمليات الهضم التاريخي لأراضينا المحتلة من باب المندب غربا حتى عمان شرقاً.
3- بالمحصلة النهائية، فإن الفكرتين أو الخيارين كما يسمونهما، لا تعنيان شيئاً سوى توكيد الاحتلال بإشراف إقليمي ودولي، والانتقال بالحالة من وضع إنهاء الاحتلال، إلى وضع إصلاح نظام سياسي، وبناء دولة اتحادية مدنية حديثة، نعلم ويعلمون أنها ضربٌ من "الأحلام" بتعبير الإرياني.
4- ومادام الحال كذلك، وهو كذلك فعلاً وواقعاً، فإن الدفع بقضية الانعتاق من الاحتلال الذي توحش وتغول حتى صار ينفذ الإعدامات في الشوارع العامة، فإن إعلان مؤتمر القاهرة إسقاط "مشروع الفيدرالية" مع المحتل، سيكون هو الخطوة المنتظرة، كي يعجّل الجنوب باستقلاله، ولا يظل رهن حلم أو وهم مؤجل، هو كذلك في تكتيك واستراتيجية المحتل، مهما تعامل براجماتياً مع أزماته الآنية، وتجارب الجنوب معه لا تحتاج إلى تفصيل هنا.
5- عندئذ، ستسقط الأقنعة، وسيكون التوافق سيد اللحظة الجنوبية، وسيكون عمل كهذا، توكيداً لاستراتيجية "مؤتمر القاهرة" الاستقلالية، التي اجتهدوا حينئذ سياسياً لتحقيقها، ولكنها اصطدمت في أكثر من محطة، باستراتيجية المحتل التي طوّحت بها فوق سُحب الأحلام والأوهام.
6- اللحظة مؤاتية جداً، لفك الارتباط مع خيارات المحتل، الذي قدّمت له أطواق نجاة جنوبية كثيرة، غير أنّ العمى السياسي وعقلية الهيمنة، يحولان دون التقاط المحتل أي طوق، ولذا فإن من المنطقي الآن، أن يركز الجنوبيون جهدهم على خيار شعبهم المعلن، عبر اصطفاف استقلالي برنامجي، بعيداً عن أي خيار مؤجّل، وبدلاً من الحديث عن دولة اتحادية مع المحتل، وافتعال صراع بين الجنوبيين: استقلال، فيدرالية، إقليمين، خمسة، ستة؟، فإن المشروع السياسي الجنوبي الواحد ينبغي أن يتبلور في رؤية استقلالية تخاطب الإقليم والعالم، بآلية انتقالية ضمن خارطة طريق واضحة باتجاه الاستقلال ومابعده، فهذا هو خيار شعب الجنوب ولا سواه، فهل تحترم "النخب والشخصيات" السياسية شعبها، وتوظف طاقاتها بهذا الاتجاه؟ هذا هو السؤال، وهذا هو العشم الجنوبي، فإن الدماء ليست مياهاً.