كمظهر من مظاهر القصور اللغوي والتاريخي التي توقع في مآزق سياسية وتاريخية، يبدو عدم التفريق بين دلالة التركيب في كل من (جنوب اليمن) و(الجنوب اليمني) في مسمى الجبهة القومية، ملمحاً من ملامح تشكيل عقيدة سياسية غير لازمة أو ملزمة، فالأول (الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن) دال على تحرير وطن واقع تحت الاحتلال البريطاني وموقعه على الخريطة السياسية خارج حدود اليمن من جهة الجنوب، وهو توصيف دقيق بالمعنى اللغوي والسياسي، وهو المدون على غلاف كتاب الميثاق الوطني للجبهة، لكن تغيير التركيب لاحقاً ليغدو (لتحرير الجنوب اليمني)، جزء من الافتراء اللغوي والسياسي، فالجنوب اليمني " في تلك المرحلة هو ماكان يسمى بالمناطق الجنوبية للجمهورية العربية اليمنية (وقبلها المملكة المتوكلية اليمنية)، أي تعز وإب وما جاورهما، ولم يكن تخضع أي منطقة من مناطق منطقة من تلك المناطق اليمنية في العهدين الملكي أو الجمهوري للاحتلال البريطاني، وكانت الدعوة إلى (الوحدة اليمنية) في أدبيات تلك المرحلة مقصوداً بها مناطق مطلع اليمن السياسي ومنزله، وليست مناطق عدن وحضرموت وما بينهما جزءاً من هذا الجنوب اليمني ولا وحدته المنشودة حينئذ.
فهي جغرافيا سياسية أخرى، تجاور جنوب اليمن السياسي وليست جزءاً منه، فهي ليست جنوباً يمنياً، وليسامح الله الجبهة القومية والرومانسيين العرب، فكثير منهم كانوا مستغرقين في قوميتهم، ولم يكن يعنيهم الاشتغال بأبعاد الدلالة اللغوية وتبعاتها السياسية كثيراً، ولا عجب، فالمد القومي كانت معدلاته عالية في البورصة السياسية، في المنطقة العربية إجمالاً، وكان تحرير الوطن هو الهدف الاستراتيجي الذي كانوا يناضلون من أجله، ولكنْ رُبّ كلمةٍ ثورية تكب شعبها في جهنم من حيث لا يدري، ولقد صلبت اللغة شعب الجنوب غير اليمني سياسياً على باب اليمن السياسي، عام 1990م، وهو يصفق، فيالسخرية اللغة والسياسة والجغرافيا، ويا شماتة أبلة صنعاء فيه!، غير أن ذلك الصلب التاريخي لم يكن إلا نتيجة طبيعية لنجاح المكيدة السياسية والاستغفال باللغة ومثالية النزعة القومية، إبان النضال التحرري من المستعمر الأجنبي، في الستينيات، بالخلط العاطفي بين هويتين: جغرافية (جهوية) وأخرى سياسية.
فالأولى يمنية واسعة تقابلها هوية جغرافية (جهوية) شامية واسعة، من دون أن يعني وجود سوريا ولبنان والأردن كفراً بالجغرافية الشامية، في حين أن اليمنية الجغرافية، تم حقنها بقداسة قومية بالتلازم مع هوية سياسية ذات عقيدة تنطلق من ثنائية الأصل – الفرع.
ولعل ما نحن فيه، الآن من وضعٍ، ليس إلا من آثار الخطأ السياسي الأول الذي ألحق هوية دولة الاستقلال الأول بهوية سياسية مستحدثة لدولة مجاورة، لا تاريخ سياسياً لها قبل أن يؤسس الإمام يحيى محمد حميد الدين محمد المتوكل مملكته المتوكلية اليمنية عام 1918م، ، في حالة من حالات الخلط غير المنهجي بين ما هو جغرافي (جهوي) وما هو سياسي، وتلك حالة ألقت ومازالت تلقي بظلالها الثقيلة على لحظة الخلاص المصيرية، من احتلال متخلف لا اختلاف على فظاعته، ولكن هناك محاولات لإعاقة المسار بوضع أحجارالماضي حيث الجغرافيا والتاريخ جداران عاليان يصدان عن رؤية وطنٍ معاصر مستقل عن تلك الهوية السياسية، ويتسع لأبنائه وبناته جميعاً بمدى اتساعهم واتساعهن له، وعياً جديداً، ورؤية جديدة، ونظاماً جديداً، يرعى مبادئ المواطنة والمدنية، وحقوق أقاليمه الفيدرالية في التنافس التنموي وتحقيق أعلى معدلات النمو في التنمية البشرية، والانطلاق الواثق نحو المستقبل، لا الدوران حول الماضي والطواف بأصنامه الجغرافية والتاريخية والسياسية.
وأيّاً ما كان الجدل، فإن الجنوب المحتل ليس جنوباً يمنياً بالتوصيف السياسي، وإن يكن يمنياً بالتوصيف الجغرافي الجهوي، وليس الاختلاف هنا حول الجغرافيا، ولكنه على الإلحاق السياسي، ولا مجال لاستدعاء الشواهد الشعرية كما يفعل بعض الذين يهون عليهم قتل آلاف البشر في سبيل إثبات حقيقة جغرافية، ليست موضوعاً للجدل أصلاً، في حالة من حالات الرقص الثقافي على جثث الضحايا، إذ يستدعون مثلاً الملك الضلّيل امرأ القيس الكندي ابن دمون الحضرمية ويتشبثون بقوله (معشر يمانون) وكأنهم أتوا بالوعل بقرونه، ولو أنهم قرأوا كلمة (يمانون) في معجهمها وسياقها اللغوي التاريخي، لأدركوا أنها لا تتعدى الدلالة الجهوية، فكندة ممتدة في أقاصي الجزيرة العربية جنوباً وشمالاً، فما كان شمالاً فهو شآم (بألف ممدودة) وما كان جنوباً فهو يمان، ولا صلة لليمن السياسي الشقيق بامرئ القيس ولا بصنعاء ولا بذمار ولا "صعتة" ولا حجة ولا المحويت، ولا حتى مأرب المجاورة جداً، كما لا علاقة لعمر بن أبي ربيعة باليمن السياسي المستحدث، في إشارته إلى منتهى اليمن الجغرافي التي ينسبها المجادلون إليه إذ يسقطون الجغرافي على السياسي، – مع أن البيتين المستشهد بهما ليسا مثبتين في ديوانه - ثم أن تاريخ المنطقة السياسي القديم كان دموياً، واحتلالياً، وليست صورة الاحتلال المعاصرة إلا جزءٌ من تمثله التاريخي، ولعل من الإنصاف في هذا السياق أن يعيد مدير "بيت الشعر اليمني" التسمية التي سطا عليها، إلى أهلها، فـ (دمون) التي أطلق اسمها على مجلته، ليست من علامات تاريخهم الحضاري والثقافي، وإنما هي استعارة من تاريخ حضرموت الحضاري والثقافي المجاور، ولا مشاحة في الاستعارة البريئة، ولا اعتراض عليها، فكلنا عرب وامرؤ القيس عربي، ودمون عربية، لكن المشاحة، والاعتراض على أن تكون الاستعارة لغرض التجيير السياسي المعاصر لتوكيد وحدة الأصل والفرع التي يراد نفخ الروح في جسدها الذي شبع موتاً في الجنوب عامةً وحضرموت خاصةً، ولقد كان في متناول القائمين على "بيت الشعر اليمني" أن يسموها باسم أي منطقة يمنية ارتبطت بشاعر من شعرائهم التاريخيين الأفذاذ، وما أكثر المناطق التي نفخر ويفخر بها أيّ عربيّ في اليمن السياسي الشقيق، (يا أخي افتخر بتاريخك الحضاري والثقافي المجيد، وسمّها صنعاء مثلاً، فصنعاء مش قليل فهي مدينة سام، أو سمّها أزال أو ما شئت، بس لا تلطش أسماء رموز جيرانك التاريخية والحضارية والثقافية). لكنها استراتيجية وعقيدة الهيمنة على الماضي والحاضر والمستقبل التي يصدرون عنها، ولمن لا يعلم فمدير بيت الشعر اليمني(الصديق الشاعر عبدالسلام الكبسي حفظه الله) أحد مثقفي الجماعة الحوثية التي يظن بعض الجنوبيين أنها ستحل ما تسميها (المظلومية) الجنوبية حلاً عادلاً، (نعم هي ستحلّها ولكن كما يحل أو يخلع الإنسان ثيابه، ومعذرةً عن التشبيه)، وأي حل عادل وهم ينهبون حتى التاريخ بدءاً من منطقة أول شاعر في العربية امرئ القيس (دمون)، وليس انتهاءً بنهب الآثار وتدميرها، دع عنك نهب الثروات واستباحة الوطن وامتهان كرامة الإنسان وسيادته وقتله بدم بارد وهو على أرضه، وليس على أرضهم. ثم من قال إن الجنوب ينتظر (معالجات) أو حلاً منهم لقضيته عادلاً كان أم غير عادل، وقضيته ليست جزءاً من قضاياهم المزمنة التي يهربون منها، والتي يتعيّن على سياسييهم أن يحلوها حلاً عادلاً، كقضية صعدة وتهامة وما تسمى بالمناطق الوسطى حالياً (الجنوبية سابقاً) والجعاشن، ولأنهم يرحّلون قضاياهم، وعيونهم الزائغة المزغللة على الجنوب، فقد أضاعوا حوارهم الوطني في الكيد للجنوب إذ أتوا بدوبلير جنوبي اصطنعوه اصطناعاً، فكانت النتيجة أن تغوّل الحوثي - وهو صاحب قضية أو مظلومية ووقع عليه حيفٌ شديد - متحالفاً مع الرئيس اليمني السابق الذي شن عليه ستة حروب، وياللمفارقة غير المفارقة يمنياً، فأسقط عاصمتهم صنعاء ومحافظاتها، وهاهم الآن يقضمون أيادي وليس أصابع الندم، فيما لم يستطيعوا تزييف إرادة شعب الجنوب، لأنه شعب آخر، شقيق، مجاور، ولا يزعم أنه أفضل ولا أكثر تطوراً منهم الآن، فقد اشتغلوا على تجهيله وتخليفه وإفقاره وإنهاكه، ولكنه أدرك اللعبة جيداً، وصار معنياً، على العكس منهم، بقضاياه الخاصة التي هي مدار اشتغال أهله، ولسوف يتجاوز عثرات حاضره، وتواطؤ بعض أبنائه معهم، لأنه ليس مشغولاً بفكرة التوسع الجغرافي والهيمنة السياسية على اليمن السياسي الشقيق المجاور، الذي لعبت قواه العتيدة طويلاً ومازالت تلعب بورقة المستخدمين الجنوبيين في واجهتها السياسية، لكنها لم تفلح ولم يفلح مستخدموها، وهاهي وإياهم، إزاء قضية وإرادة شعب الجنوب، في ورطة تاريخية، تمثل تجلياً لحالة من حالات انحطاط التفكير السياسي في الجمهورية العربية اليمنية– بتوصيف الصديق الشاعر الروائي علي المقري في تعليقه على ما طرحه أحمد محمد نعمان في كتابه "أزمة المثقف اليمني" (القاهرة 1964)– إشارة إلى ما دأبت عليه قيادة حركة 26 سبتمبر 1962م من نهج مناطقي إذ (استوزرت عديداً من أبناء المنطقة الجنوبية وأشركتهم في كثير من المراكز الحكومية الهامة أكثر عدداً مما حدث في حركة 1948؛ حتى أصبحت القاعدة في كل تعديل وزاري أو تنظيم في أجهزة الدولة أن تقتسم المراكز مناصفة بين الشمال والجنوب)، ومعلوم أن نعمان كان يعني بالجنوب في هذا السياق طبعاً، المناطق الجنوبية الواقعة داخل الحدود السياسية للجمهورية العربية اليمنية حينئذٍ، فيما يعني بالشمال مناطقها الشمالية، كما يستدرك الصديق المقري، بموضوعية القارئ للأحداث خارج الأيديولوجيا السياسية التي يتمترس خلفها عديدون غيره.
لقد آن الأوان أن يدرك العقلاء في اليمن السياسي الشقيق أن محاولات فرض الخرافة السياسية المعاصرة على شعب الجنوب، ليست أكثر من إضاعة للوقت الذي هم أحوج منا إليه، لترميم وطنهم، ولملمة تشظياته، أما الجنوب المثخن بخطاياهم وجرائمهم، فهو أكثر إنسانيةً في تعاطيه معهم، ولعل نزوعه إلى السلمية القاتلة في مواجهة سلطتهم المدعومة شعبياً تحت تأثير وهم الحق الإلهي والتاريخي في الجنوب، تمثل صورة من صور التسامي الإنساني والحضاري في مواجهة جبروت خرافي، معادٍ للإنسانية، ستظل أجيالهم النظيفة حالياً ومستقبلاً تنكس رؤوسها خجلاً منهم ومن جرائمهم، وتحني هاماتها إجلالاً للتسامي الجنوبي. ولعل مشهد الاعتصام المفتوح منذ مليونية 14 أكتوبر، في عدن وحضرموت رسالة إرادة تتجاوز التشفير الإعلامي وتتردد أصداؤها في كل الاتجاهات، ولا عنوان لها سوى الاستقلال، ولا شيء أدنى من الاستقلال، حيث لا انتقاص لأيّ من الشعبين بالمجاورة الحسنة، والتعايش المدني والحضاري.
حاشية على المقال:
مسمّى (الحراك) الجنوبي هو الآخر يكاد يجري عليه ما جرى على مسمى الجبهة القومية المشار إليه، فالحراك لن يكون بمنأى عن مشاريع مضادة له، أو مخاتلة، أو تتخطفه من الداخل، إن لم يحسم مسمّاه أولاً بغلق الدائرة على المتذاكين والمخاتلين، ولأن لهم في مسماه مدخلاً فقد أقحموه في الحوار اليمني، وهاهم يشركونه في الحكومة اليمنية، لأن تسميته تتيح ذلك، ولعل من المفيد هنا أن يتم النص الصريح على هدفه الرئيس في صيغة التسمية، لتكون: الحراك السلمي التحرري الجنوبي، إذ لا إضافة حقيقية في التسمية التي أخرجها دمج مجلسي الحراك والثورة، بمسمى (الحراك الثوري)، وأظن أن أي خطوة جامعة للقوى الجنوبية التحررية، ينبغي أن تنص في تسمية إطارها على كلمة (التحرري)، ففيها توصيف يشخّص الوضع القائم في الجنوب بأنه احتلال، والسبيل إلى الخلاص منه تحرري بالضرورة، وليس (حلاً للقضية الجنوبية) التي تتناهشها مشاريع (السمكرة الوحدوية) فيدرالياُ وأقاليمياً واتحادياً، وإذ يكون التوصيف تحررياً، باستراتيجية سلمية، فإن من يحمل أي مشروع أدنى من التحرر من الاحتلال، ليس له مكان في حراك شعب الجنوب السلمي التحرري، وإن كان جنوبياً بانتمائه الجغرافي من دون انتقاص لمواطنته أو حقوقه الإنسانية، ذلك ان هناك مشروعين لا ثالث لهما الآن في طريق شعب الجنوب: مشروع الساحة والميدان المتمثل في الاستقلال والسيادة والهوية، يقابله مشروع احتلالي خارج الساحة والميدان يهدف إلى إعادة إنتاج (الوحدة) وسمكرتها سياسياً.
لقد دحرجت التسمية شعب الجنوب إلى باب اليمن، ولئن لم يعِ خطورتها حراكياً، فإنه عائد– لا سمح الله – إلى باب اليمن مجدداً، لبناء مشروع الدولة (الجنوبية - الحوثية) المدنية الحديثة، كما يشير أحد رؤساء الجنوب الأسبقين قبل يومين، معتبراً الحراك ونضالاته تعبيراً شعبياً من أجل بناء هذا المشروع الوطني – على حد وصفه - في حالة من حالات العماء السياسي الراهن التي كان هو جزءاً من صانعي تجلياتها القديمة. غير أنني لست أدري لماذا أستحضر الآن المثل الحضرمي القائل: " نقول له: تمر، يقول لي: متيندا".