لا يزال العبث يطال تاريخنا الجنوبي منذ قرن من الزمان، فلم يُكتب كما تقتضيه الأمانة العلمية، ولم تُجمع وثائقه المكتوبة والمصوَّرة حتى اليوم في أرشيف منظم ودقيق أو تسجل شهادات شهوده، حتى يُتاح للباحثين والمحققين دراسته وتدوينه وفق المعايير الأكاديمية الرصينة، ليصبح في متناول الجميع.
لقد جرى تجريف جزء كبير من هذا التاريخ سياسيًا وماديًا وإحراق الذاكرة الجنوبية وتزوير وعي أجيال كاملة بسرديات تاريخية مصطنعة، ولم يكن آخر ذلك ما نُهب من أرشيف تلفزيون وإذاعة عدن، ولا ما أُحرق ونُهب من مراكز البحوث والتوثيق المختلفة في عدن على أيدي تتار العصر من اليمنيين، الذين نهبوا، دمَّروا وأحرقوا ذاكرة وطنٍ بأكمله بعد الغزو اليمني عام 1994م.
لكن الحقيقة أن الطمس السياسي للتاريخ وتزويره لم يبدأ هناك، بل كانت له جذور أعمق؛ فبعد الاستقلال بدأت أولى مراحل إعادة صياغة التاريخ على مقاس الحكام الجدد، حيث صيغ بطريقة ألغت وطمست كل تاريخ الحركة الوطنية الجنوبية والثورات والانتفاضات التي عرفها الجنوب من التاريخ المدرسي، بل وشيطنتها.
جاءت سردية ما بعد يونيو 1969م لتقدّم تاريخًا آخر تم تفصيله على قياس من سمّوا أنفسهم يساريين واسقطوا كل صفات تسيء لمن جاء بهم إلى السلطة، تلتها بعد ذلك إعادة صياغة أخرى عقب 1978م ليصبح أصحاب الاشتراكية العلمية والوافدين من اليمن وحدهم هم من قاد النضال حصريًا ومحو تاريخ جزء كبير من الجنوب. ثم تشكّل تاريخ جديد عقب أحداث 1986م، وأُبقي أبطال أحداث تاريخ الجنوب محصور في أقلية، حتى إن أدوارًا نسبت إلى بعضهم ممن وُلدوا قبل الاستقلال بسنوات قليلة.
وفي النهاية أُجهز على تاريخ الجنوب تمامًا بعد 1990م بعدما اخذ منه ما أٌخذ إلى صنعاء وتحولت الذاكرة الجنوبية إلى غنيمة بيد من اعتقدوا أنهم هم المنتصرين، وهكذا جرى كتابة تاريخنا «كلما دخلت أمة لعنت أختها».
الحقيقة المُرّة هي أن تاريخ الجنوب لم يُكتب بعد كما يجب، ولم تُروَ حكاياته من الوثائق الموجودة في أرشيف الدول المعنية، ولا من أفواه صانعيه الحقيقيين ومن تبقى من شهوده الأحياء.
واليوم، بينما ما يزال بيننا من عاصر تلك المراحل وكان جزءًا منها، يبرز السؤال الجوهري: ألم يحن الوقت لأن نبدأ في تسجيل شهادات الفاعلين والشهود على تاريخ الحركة الوطنية، وكذلك في لملمة والبحث عمّا تبقّى من وثائق وشهادات وصور وأفلام في مكتبات العالم ودوائر التاريخ في عديد الدول التي كانت لها علاقة بتلك الفترات من التاريخ الجنوبي، علّ ذلك يمكن أن يحفظ لنا الذاكرة الجنوبية من الضياع، وتعيد إليها صدقها ونبضها؟
إن التاريخ الجنوبي الذي لا يُكتب بأيدي أبنائه سيظل أسيرًا بل سلاحًا في سرديات وأيدي المنتصرين، يتحدث بلسان غير لسانه، ويخدم من أرادوا أن يطمسوا الوعي قبل الحقيقة. ومن هنا تنبع الحاجة الملحّة لإنشاء مركز أو أرشيف جنوبي وطني للتوثيق التاريخي، يجمع كل ما تبقى من وثائق وصور وشهادات، ليصبح المرجع الأكاديمي والوطني الذي يحفظ ذاكرة الجنوب ويضمن ألا تُسرق منه بعد اليوم، وأن يظل أبناؤه قادرين على معرفة تاريخهم كما كان حقًا.