الجنوب ولعنة الشراكة

2024-12-29 07:05

 

في ضوء منشوري السابق المعنون بــ"حتى لا نُلدَغ من نفس الجُحر للمرة العاشرة"، تلقيت عدة تعليقات وبعضها فيها من العتاب بل والسخط أكثر مما فيها من تفنيد عقلاني لمحتويات المنشور، ولا أرغب في الخوض في تلك التعليقات لكنني وددت الوقوف عند بعض التشنجات التي أظهرت أن أصحابها إما لا يعيشون على الأرض ولا يتابعون ما تشهده البلد منذ العام 2015م بل ومنذ العام 2007م، كي لا أقول منذ العام 1994م، وإما يدافعون عن أمرٍ خفي لا يرغبون في الإفصاح عنه فيتوارون وراء العبارات الهلامية التي لا معنىً ملموساً لها.

 

يقول أحدهم بعد أن كال لي مجموعة من صفات المدح والثناء ببعض المفردات التي لست متأكداً من أنني أستحقها كــ"المناضل" و"الوطني" و"الأممي"، يقول معاتباً كيف تتحدث عن شمال وجنوب، وعن قضية جنوبية ونخبة سياسية شمالية وأخرى جنوبية؟ وأنت من عرفناك مناضلاً وطنياً وأممياً بارزاً؟، قلت له وما وجه العتب؟ قال لي أنت تستخدم لغة الانفصاليين، وتتحدث عن الشمال والجنوب، وأنت تعلم أنه "ما فيش حاجة اسمها شمال وجنوب"؟!!

قلت له ماذا تسمي وجود رئيسين في كلٍ من عدن وصنعاء، وحكومتين وعاصمتين وبنكين مركزيين وجيشين وأمنين وعملتين وبرلمانين، ومجلسي شورى وكل مكونات الدولتين في كل من عدن وصنعاء؟ أليس هذان هما الشمال والجنوب؟

*    *     *

ولأن الحديث في هذا الأمر يطول فسأتوقف هنا عند التسريبات التي تتحدث عن فشل اجتماعات مجلس القيادة الرئاسي في الخروج بنتيجة بعد سلسلة اجتماعاته المستمرة منذ أيام عديدة في العاصمة السعودية الشقيقة الرياض بسبب الانقسام بين أعضائه، وإن لم تقل التسريبات شيئا عن أسباب الانقسام الذي أدى إلى هذا الفشل لكن كل ذي بصيرة لا بد أن يتكهن وربما يستنتج الأسباب من تلقاء نفسه، وفي ظني، و"ليس كل الظن إثماً" أن السبب الرئيسي يكمن في لعنة الشراكة المختلة التي تقوم عليها تركيبة العضوية في مجلس الرئاسة، ومن ثم بقية مؤسسات الشرعية المهاجرة.

 

كان كاتب هذه السطور قد قال منذ العام 2022م بعيد تشكيل مجلس القيادة الرئاسي، أن تركيبة المجلس مختلة جوهرياً وعضوياً، فمن ناحية يقوم المجلس على تجميع "كوكتيلي" لعدد من المشاريع المتباعدة والمتناقضة في الغالب، التي لا تلتقي إلا عن نقطة واحدة، (مؤقتة) وقد تزول بمرور الأيام ، وهي الخصام مع الجماعة الحوثية، وليس كل أعضاء المجلس يخاصم الجماعة الحوثية لنفس السبب، فأحدهم يخاصمها لأنها أخذت منه السلطة، وآخر يخاصمها لأنها تخالفه مذهبيا، وثالث يخاصمها لأنها قتلت زعيمه، ورابع يخاصمها لأنها دمرت وقتلت وفتكت وعاثت فساداً في أرضه وأهله، ولن يقبل التعايش معها، وبالتالي فلو زال سبب الخصام لدى كل طرف لانفك مجلس الرئاسة، وأصلح معظم أعضائه علاقاتهم مع الحوثي وجماعته.

 

لكن السؤال هل يتوحد أعضاء مجلس لقيادة حول نقطة واحدة أخرى؟

كي لا نتسرع في الإجابة دعونا نتفحص مستوى نجاح المجلس في تشكيل حكومة وطنية مسؤولة تقوم بأدنى الوظائف المناطة بها، أو مستوى حل أزمة الخدمات، أو القدرة على توفير مرتبات الموظفين والمتقاعدين الحكوميين، أو محاربة المجاعة، أو حل أزمة البيئة والأوبئة، أو التخفيف من الفقر، أو معالجة أزمة انهيار سعر العملة المحلية، أو ، أو ، أو عشرات الأوأوات؟

لا شيء مما ذكر يمكن أن يقال أن مجلس الرئاسة وحكومته العرجاء أنجزا فيهما يتجاوز الصفر، . . .عفوا لقد نسيت، أنجزوا لنا برقيات الشكر والثناء على الأشقاء في المملكة العربية السعودية لقاء ما قدموه من إعانة مالية بنصف مليار دولار، والدعاء للمملكة وشعبها وملكها وولي عهده بالمزيد من الرزق والنعيم حتى يستمروا في دعمنا، على طريقة تلك العجوز التي ظلت تبتهل إلى السماء "أن يرزق الله الشيخ ليكونوا أولادها عُمَّالاً في مزرعته".

 

ليس الغريب أن ينقسم مجلس القيادة الرئاسي بقيادة د. رشاد العليمي، بل الغريب أن لا ينقسم، لسبب أن رئيس وبعض أعضاء المجلس ليست لهم علاقة بالأرض والناس الذين يحكمونهم، فهم عبارة عن مندوبين مستوردين من بلاد شقيقة لإدارة أرض وشعب وثروات الجنوب، فقط وليس لتنمية الموارد وتحسين ظروف المعيشة لأبناء الأرض وإعادة بناء منظومة جديدة للإدارة وتنفيذ مشاريع تنموية وخدمية تسهم في إعادة حياة الناس إلى مستوىً معقولٍ من الاستقرار والعيشة الكريمة لأبناء المجتمع.

 

أحد الظرفاء علق على منشوري السابق بالقول " إن الشراكة متينة جداً فهي تقوم على المعادلة التالية: الجنوب يساهم في الشراكة من خلال الأرض والبشر والموارد، والشمال يساهم من خلال القادة والحكام والمتنفذين والدولة العميقة" واختتم تعليقه بالتساؤل: ماذا تريدون أكثر من هذا؟!!.

 

إذا ما صحت الأنباء التي تقول أن سبب فشل اجتماع المجلس الرئاسي هي مطالب اللواء عيدروس الزبيدي بضرورة وضع حد لأزمة الخدمات والكف عن تجويع المواطنين ونهب مرتباتهم، ووضع حدٍّ لانهيار سعر العملة وإعادة إعمار العاصمة عدن، ووضع سياسة جذرية جادة لمحاربة الفساد؛ أقول إذا ما صحت هذه التسريبات فإن اللواء الزبيدي يكون قد وضع الكرة في مرمى السادة الرئيس والأعضاء الضيوف، الذين لا انجاز يُحسَب لهم ولا حضور ملموس يمكن أن يرى لهم سوى الزيارات الخارجية وإلقاء الكلمات في المناسبات وبعض الصور التلفزيونية التي تثير من القرف والاشمئزاز أكثر مما تبعث من الشفقة والأسى.

*    *      * 

ستظل لعنة الشراكة تطارد الجنوبيين في صحوهم ومنامهم، في كوابيسهم الكثيرة وأحلامهم القليلة، في جوعهم السائد وشبعهم النادر، في سقمهم القائم وعافيتهم الغائبة، حتى يعاد بناء الشراكة على أسس سليمة ومنطقية يكون فيها أبناء الجنوب هم المتصرفون في شؤونهم وأرضهم وثروتهم ويتولى أبناء الشمال تسوية وضعهم مع الحوثي سلماً أو حرباً، ولن نكون كجنوبيين إلا مع حق الشعب الشمالي في استعادة دولته وتولي أموره بنفسه وبالطريقة التي يختارها، لكن الأقلية الجنوبية لا يمكن أن تحرر الشمال نيابة عن أبنائه وهم الأغلبية على الأرض.

ولا غالبٌ إلَّا الله