لا أعلم لِمَ هو مُستقِرٌّ عند الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أُمِّيًّا بالمعنى الدارج لكلمة "أُمِّيَّة"، والتي تعني الشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب!!
والحقيقة أن الله لم يُسَمِّ رسوله الأعظم ونبيَّه الأكرم أُمِّيًّا - أي لا يقرأ ولا يكتب - إلا في أذهان مَن لم يتأمَّلْ آيات القرآن ويتدبَّرْها ويفهمْ سياقاتها في ضوء فِقْهِهِ لِلِّسان العربيِّ الذي به نزل القرآن المجيد.
وَلْنقرأْ معًا قوله تعالى:
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم} الأعراف 155 - 157.
فالله - جَلَّ وعلا - يقرر هنا أن كلَّ مَن عاصر النبي محمدًا فهو مُلزَم بالإيمان به واتِّباعه؛ لأنه يصدق الأنبياء قبله، ولأن الأنبياء قبله قد بشروا به، ولذلك قال (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيلِ)، وإنما ذكر الله صفة الرسالة ثم أتبعها بالنبوة رغم أن الرسالة تقتضي النبوَّة؛ لأن علماء بني إسرائيل أخفَوا عن العَوَامِّ أنَّ مَن سيأتي من بعد موسى هو رسول بشريعة جديدة، وزعموا أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل، فكان مناسبًا هنا ذكر الرسالة ثم النبوَّة.
ثم إذا كانت كلمة "أُمِّيّ" تعني مَن لا يقرأ ولا يكتب، فما وجه إدراجها في مَعرِض المديح هنا؟! أين البلاغة في قول: "أتاكم رسول ونبي لا يقرأ ولا يكتب"؟!! بل الحقيقة أن الكلمة منسوبة إلى "أُمَم" جمع "أُمَّة"؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - مبعوث لأمم الأرض كافة حتى قيام الساعة، قال سبحانه مخاطبًا رسوله الأعظم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون) سبأ 28.
وفي اللغة العربية الفصحى - أو اللغة العالية - لا يُنْسَب للجمع، بل تُرَدُّ الكلمة إلى المفرد ثم يُنْسَبُ إليها، فلا يصح أن تقول - على سبيل المثال -: "دُوَلِيّ" في النسبة إلى كلمة "دُوَل" التي هي جمع "دَوْلَة"؛ بل لا بد أن تَرُدَّ الكلمة إلى المفرد "دَوْلَة" ثم تَنسِب وتقول "دَوْلِيّ".
وكذلك ليس من الفصاحة قول "أُمَمِيّ"، بل لا بد من إفراد الكلمة لتصبح "أُمَّة"، ثم النسب إليها "أُمِّيّ"، وهذا هو اللائق بفصاحة القرآن الكريم، فمحمد هو رسول ونبي وهو مبعوث لكافة الأمم.
وأما كونه - صلى الله عليه وسلم - لا يقرأ ولا يكتب؛ فهذا أمر آخر، قد يُفهَم من قوله تعالى لنبيه الأكرم: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُون) العنكبوت 48، ولكن لسنا هنا في معرض مناقشة ذلك.