إن النظر إلى المعاني المجردَّة؛ كالحب والبغض، والإيمان والكفر، والإسلام والإجرام، والحكمة والسفاهة، وسلامة الصدر وسَخَامَتِه، وغير ذلك من الأمور التي يُشعَرُ بها ولا تُحَسُّ بالجوارح؛ إن النظر إليها على أنها أشياء ذات كينونة "فيزيائية" - بلغة العلم الحديث - ويمكن أن تُرَى وأن تُمَسَّ وتُجَسّ؛ لَهِيَ طفولة فكرية وسذاجة عقلية، وإنَّ نِسبَتَها إلى المقام الأسنَى والجناب الأسمَى لسيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَهُوَ سوء أدبٍ معه، وإساءةٌ بالغةٌ لمَن علَّمَه ربُّه فأبْلَغَ تعليمَه، وأدَّبَه فأحسن تأديبَه.
فقد زعم عدد من رواة الموروث، وعلى رأسهم البخاري ومسلم، أن الصدر الشريف لسيد الخلق قد شُقَّ - حقيقةً لا مجازًا - ثم غُسِلَ قلبُه وأُخْرِجَ منه "حظ الشيطان"، وبعد ذلك "حُشِيَ" حكمةً وإيمانًا!!
والعجيب أن أصحاب المرويات اضطربوا - لأن الباطل لجلج - في تحديد وقت حدوث هذه الأسطورة؛ فمِن قائلٍ إنها كانت وقتَ نشأة النبي وهو صَبِيٌّ في بني سعد، ومن قائلٍ إنها حدثت في مكة قبل البعثة، ومِن زاعمٍ أنها إنما حدثت في مكة بعد البعثة وقُبَيْلَ خرافة المعراج.
و واللهِ لا أعلم ما أَرُدُّ به على الملحدين وأعداء الإسلام، إذا ما جاءني أحدهم مستبشرًا وهو يتأبَّط كتابًا أصفرَ مُغْبَرًّا، ثم بعد أن فتحه وسَعْلْنَا معًا من الغبار، أخذ يقهقه وهو يقرأ هذه الترهات على مسمعي وأنا ابنُ القرن الحادي والعشرين، المؤمنُ بصدق كتاب الله وصدق نبيه.
ولكني لا أدري كيف أفهِّمه أن المرويات لا تؤخذ على علَّاتها؛ إذ هي ليست وحيًا محفوظًا من الله، وأنْ لا بد من عرضها على قسطاسين عدلين هما القرآن الواضح والعقل الراجح.
فلو كان هذا الكلام صحيحًا؛ لَأَمْكَنَ - عند تشريح الإنسان - العثورُ على "مكامِن" النقص البشري، ومن ثم "استئصالها"، وإذا بالناس ملائكة يمشون على الأرض، أو أنبياءُ مُضِيْئو الوجوه سَلِيْمُو الصدور، تَفِيضُ قلوبُهم - المغسولة المحشوَّة خيرًا - حبًّا ورأفةً ورحمة.
غير أنَّ هذا الملحد أخذ يردد في نشوة المنتصر نقلًا عن "القوم" في وصف كتاب البخاري بأنه "أصح كتاب بعد كتاب الله"، وأنه هو وكتاب مسلم موصوفان بأنهما "صحيحان" دون تحفظ، وأن ما اتفق عليه الرجلان فهو كالقرآن ثبوتًا ووجوبَ تصديق واتِّباع.
وأن المُمَارِيَ فيهما على شَفَا جُرُفٍ هارٍ يوشك أن ينزلق به إلى وادٍ سحيق من الزندقة والإلحاد، فإذا أنا ومَن جادلتُه من الملحدين في فسطاط واحد لا علاقة له بفسطاط أهل الإيمان، ممَّن جعلوا هذين الكتابين البشريين صِنْوًا لكتابٍ أحكمت آياته، وحَفِظَه مَن أنزله حرفًا حرفًا، في معجزةٍ لم تحدث عبر تاريخ البشرية كله.
الرواة: البخاري، مسلم (من موقع "الدرر السنية) ، ابن حنبل، الحاكم، الترمذي، النسائي.