تواصل معي زميل من الناشطين السياسيين من أبناء تعز، معاتباً لي على ما أسماه بــ"التحامل على أبناء تعز" و"كراهيتك للرموز التعزية" حسب تعبيره، وحينما سألته من أين أتى بهذا الاستنتاج الخاطئ، رد علي بأن كل مقالاتي الناقدة للرئيس الدكتور رشاد العليمي، ورئيس الوزراء د. معين عبد الملك "مملوءة بالحقد والسخرية والكراهية لهذه الرموز التعزية المعروفة".
لكنني رددت عليه بأن نقدي أنا وأي ناشط سياسي أو إعلامي جنوبي أو غير جنوبي واحتجاجنا على هؤلاءِ وسواهم من المسؤولين الحكوميين ليس موجهاً تجاه أشخاصهم ولكن باتجاه سياساتهم وممارساتهم ومواقفهم كقادة سياسيين وتنفيذيين مسؤولين عن حياة الناس وعن مصير البلد ومستقبلها، ناهيك عن أن يكون نقداً أو حقداً أو كراهيةً لمناطقهم وقبائلهم أو انتماءاتهم الجغرافية، هذا أولا.
وثانيا: أن من تتحدث عنهم وتسميهم بالرموز التعزِّية ليسوا هم تعز لأنهم لو كانوا كذلك فهذا إنما يمثل إساءة لهذه المدينة وهذه المحافظة الملأى بالكوادر والكفاءات والمناضلين والشرفاء والمبدعين والشخصيات التاريخية التي لا يساوي هؤلاء حرفاً في صفحات تاريخها المكتظ بالمواقف الوطنية والإنسانية النبيلة والخالدة، فمن يظلم تعز هو من يعتقد أن معين عبد الملك ورشاد العليمي وأمثالهم يعبرون عن تعز ويحتكرون تمثيل شعبها وهويتها التاريخية المتميزة، وليس من ينتقد الانحرافات والسلوك والأخطاء والجرائم التي ارتكبها من أسميتهم بالرموز التعزية بحق الوطن وبحق تعز نفسها.
* * *
في تناولة سابقة كان كاتب هذه السطور قد أشار إلى أن تكليف رشاد العليمي لرئاسة الجنوب هو خطأٌ تاريخيٌ واستراتيجيٌ لا يختلف عن خطيئة تكليف عبد ربه منصور هادي رئيساً للشمال.
ومع إن الرئيس هادي ليست له مواقف عدائية تجاه الشمال لا كجمهورية عربية يمنية، ولا كجمهورية يمنية، فإن البيئة السياسية والاجتماعية لم تتحمل وجوده في قصر السبعين أكثر من سنتين، وما لبثت أن تآمرت عليه وانحازت إلى الانقلاب عليه، رغم التأييد والدعم الذي أبدته له النخبة السياسية الشمالية، وهي النخبة التي تخلت عن الرئيس هادي ولاذت بالفرار قبل تمكنه من الإفلات من أيدي الانقلابيين ولجوئه إلى عدن واحتمائه بالمواطنين الجنوبيين الذين قاطعوا انتخابه، لأسباب لا علاقة لها بشخص الرئيس ذاته.
أما عند الحديث عن الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي، وعلاقته بالجنوب والجنوبيين فإن الأمر يختلف جذرياً عنه عند مقارنته بالحديث عن علاقة الرئيس هادي بالشمال والشماليين:
فأولا: الرئيس هادي انتخبه الشماليون بالغالبية العظمى وقبل هذا أجمعت عليه كل القوى السياسية الشمالية، بما في ذلك الذين انقلبوا عليه، بينما لم ينتخب أحد الرئيس رشاد العليمي، لا من الجنوبيين ولا حتى من الماليين.
ثانيا: لم يتسبب الرئيس هادي باعتقال أو سجن أو اتهام أو قتل أو حتى شتم أي مواطن شمالي، بينما يمتلئ ملف رشاد العليمي بمئات الحالات التي يستدعي التوقف عندها حلقات وربما مجلدات.
وثالثا: حينما انتخب الرئيس هادي (انتخاباً) كرئيس للجمهورية اليمنية كانت العاصمة صنعاء بيد الدولة، وكانت اليمن ما تزال دولة واحدة، رغم ضعف هيمنة المركز على الجنوب الذي خرج عن طور السلطة الرسمية لأسباب يعرفها أعداء الجنوب قبل أصدقائه، وكان بإمكان الرئيس هادي أن يتنقل في جميع محافظات البلاد بما في ذلك محافظته (أبين) التي سلمها سلفه لتنظيم أنصار الشريعة، (فرع القاعدة الخاص بأبين)، أما الرئيس رشاد العليمي فقد تولَّى قيادة الجنوب (وحده) دون بقية المناطق، ولا يستطيع أن يزور أية محافظة شمالية، وكانت زيارته الأخيرة لمدينة مأرب (وليس لمحافظة مأرب) أشبه بمعجزة الهبوط على المريخ، وطبعاً لا يستطيع أن يزور أكثر من 7 مديريات شمالية بما فيها مديريته الواقعة تحت سيطرة الجماعة الحوثية.
* * *
وبالعودة إلى عنوان هذه المقالة فما زلت أتذكر أنني وفي لقائي مع الرئيس هادي في ذروة الحرب مع الانقلابيين (الحوث-عفاشيين) داخل عدن في أغسطس العام 2015م قلت له من بين أشياء كثيرة، أنكم ظلمتم الجنوب والقضية الجنوبية والجنوبيين جميعاً عندما وضعتم خيار الأقاليم الستة كخيار وحيد للدولة اليمنية الفيدرالية، وكان خيار الإقليمين هو الأقرب إلى كسب موافقة المواطنين الجنوبيين وطمأنتهم عن مستقبلهم، لكنه قال لي: لم يكن بمقدوري تبني خيار الإقليمين، فإنا رئيس للجمهورية اليمنية رغم أنني ابن الجنوب ورغم تعاطفي مع مطالب الجنوبيين، وأضاف: لو اقترحت فيدرالية الإقليمين فإن تهمة الانفصالية جاهزة ضدي.
وعلى العموم فقد ذهبت فكرة الإقليمين والستة أقاليم أدراج الرياح بعد أن "جاء السيل وشل الغيل" كما يقول أبناء الأرياف، فالذين رفضوا فكرة الإقليمين، وما يزالون يرفضونها بحجة الدفاع عن الوحدة اليمنية، قد تخلوا عن كل الأقاليم وعن الوحدة والجمهورية والثورة وسواها، ولاذوا بالفرار ومن عاد منهم إنما عاد إلى عدن، عاصمة الإقليم (الجنوب) الذي ما يزال في قرارة نفسه يعتبره العدو اللدود، والمهدد لوحدة اليمن، لكنه لا يستطيع أن يزور أولاده وأحفاده وأبناء قريته ومديريته التي يهيمن عليه من يتمسكون بـ"وحدة اليمن" من أحفاد حميد الدين وبدر الدين (المطهرين).
لم يستطع الرئيس عبد ربه منصور هادي أن يقدم شيئا للجنوب والجنوبيين، ولا لإنصاف ضحايا حرب 1994م وهم بمئات الآلاف وأسرهم يبلغ تعداد أفرادها الملايين، دعك من ضحايا التجاهل والاستبعاد والحرمان من المواطنة، وهم يمثلون السواد الأعظم من أبناء وبنات الجنوب، أقول لم يستطع أن يقدم شيئا لا أثناء وجوده في العاصمة صنعاء ولا بعد نزوحه منها واستقراره في عدن ثم في الرياض، هذا وهو رئيس منتخب وهو ابن الجنوب، بمعنى إنه الذي يعرف جميع تفاصيل القضية الجنوبية وتعقيداتها وكل مراحل وتحولات التاريخ الجنوبي بتعقيداته وصفحاته المشرقة والقاتمة، والسبب في عدم قدرته هذه لا يكمن في رفضه أو كراهيته للجنوب والجنوبيين، بل لأن مراكز القوى التي كانت تتحكم في صناعة القرار السياسي كانت هي من يمنع الرئيس من اتخاذ القرار الذي ينوي اتخاذه، أو بالأحرى كانت هي من يرسم السياسات ومخرجاتها ولم يكن الرئيس هادي إلا مجرد واجهة لإعلان السياسات وإصدار القرارات، أما الرئيس رشاد العليمي فالكل يعلم بما يتضمنه ملفه مع القضية الجنوبية والشعب الجنوبي.
والخلاصة:
إن ما لم يحصل عليه الجنوبيون في ظل رئاسة ابن الجنوب الرئيس عبد ربه منصور هادي لن يحصلوا على جزء بالمائه منه في ظل رئاسة رئيس نازح من دياره باحث عن ملجأ يحميه ممن احتلوا بلدته وبلاده ويتحكمون في مصير أهله وذويه دون أن يستطيع حشد مائة مقاتل يحرر بهم قريته ومديريته، وعلى الجنوبيين إعادة صياغة المعادلة السياسية نحو فك الارتباط مع سلطة يرأسها وافدون من دولة شقيقة، ولهم حسابات تاريخية عسيرة مع الشعب الجنوبي.
* * *
معركة الشاب محمد السناوي ابن مديرية ماوية في محافظة تعز الاسبوع قبل الماضي مع الجماعة الحوثية وما نجمت عنها من نهاية تبين أن الحوثيين ليسوا مقاتلين محترفين وماهرين عصيين على الهزيمة، كما يصور البعض، بل إنهم قابلون للهزيمة والشطب من التاريخ، لو وجدوا جيشا من مائة مقاتل من أمثال محمد السناوي، وهيمنتهم على محافظات الشمال ليست بسبب قوتهم، ولا حتى بسبب غياب من يتصدى لهم، لكن لأن المواجهة معهم تتم بصورة فردية بينما تسترخي القيادات السياسية والعسكرية الشمالية متفرغة للتنظير والتحليل والتركيب وتستسلم لصبي صغير أو مجموعة صبية كل مزاياهم أنهم يشخطون وينخطون في وجوه المساكين من المواطنين وضعفاء النفوس من السياسيين والعسكريين.