سؤال ربما كان من الجدير أن يطرحه الذين يتحدثون عن ضرورة تقديم التنازلات التي وصفها خطاب رئيس الجمهورية بأنها قد تبدو مؤلمة في سبيل إنجاح أعمال مؤتمر الحوار الوطني وإنجاز التسوية السياسية في اليمن، هذا السؤال لا يمكن عزله عما عاناه اليمنيون وما يزالون يعانون منه حتى اليوم، ولا عما تعيشه الساحة اليمنية من تفاعلات وما تشهده ردهات مؤتمر الحوار الوطني من استعراض للآراء والمواقف السياسية وتقديم للرؤى وعرض للأفكار.
في البدء لا بد من الإقرار بأهمية ما شهدته الأيام الأولى لمؤتمر الحوار الوطني على الأقل من زاوية جمع المختلفين وكسر حاجز العداء وترويض الأسماع على الإنصات إلى المغاير والمختلف الذي لم يعتد الكثيرون على سماعه، والأمر الثاني هو الاستماع إلى صوت جديد على الغالبية من السياسيين اليمنيين وهو الصوت الشاب الباحث عن المستقبل والذي لا يكترث كثيرا لصراعات القوى السياسية في الماضي بقدرما يبحث عن المستقبل ويحاول تحديد معالمه من زاوية البحث عن بناء دولة المواطنة وتحقيق العدالة التي افتقدها اليمنيون طوال قرون طويلة من تاريخهم وفشلت الثورتان السبتمبرية والأكتوبرية في تحقيقها.
في إحد الحوارات التليفزيونية قال أحد الشباب المشاركين وكان يتحدث عن القضية الجنوبية وملابساتها وكان المذيع كثيرا ما يردد: إن علينا أن ننسى الماضي وأن ننتقل إلى المستقبل ونفكر فيه، قال الشاب المشارك في الحوار: بالنسبة للقضية الجنوبية الماضي هو حاضر وقد يظل في المستقبل إذ إن آثار هذا الماضي ما تزال قائمة، وما يزال الضحايا هم الضحايا والناهبون هم الناهبون والجلادون هم الجلادون، ولذلك علينا أن نأخذ بالاعتبار إن هذا الماضي لا يمكن أن نتخلى عنه إلا بإزالة آثاره، وهذه الحقيقة لا يمكن إنكارها لماذا؟ لأن الماضي الذي يراد للمواطنين الجنوبيين أن ينسوه يعيشونه كل يوم ويكتوون بنيرانه فالذي أخرج قسرا من عمله وظل وما يزال يعاني العوز والفقر والحاجة والبطالة والحرمان من الخدمات لا يستطيع أن ينسى معاناته التي ما يزال يتجرع مراراتها، وهذا الأمر ينطبق على من نهب منزله أو سلبت أرضيته أو خسر أملاكه أو حرم من المنحة العلاجية أو البعثة الدراسية أو من فرصة الحصول على العمل، كل هؤلاء يعيشون الماضي في الحاضر وسيظل هذا الماضي يلازمهم طوال حياتهم القادمة وقد يسهم التعويض المادي وآلمعنوي في تخفيف مرارة المعاناة لكنه لا يمكن أن يعيد الخسارة التي ألحقت بهؤلاء الضحايا.
وحيث إنه قد تكرر كثيرا الحديث عن التنازل المتبادل من أجل إنجاح الحوار الوطني وتيسير عملية الانتقال السياسي السلمي فإن السؤال المشروع الذي يستحق البحث هو: من سيتنازل وعماذا يتنازل؟ وبعبارة أخرى: هل على الشباب الذين حلموا وما زالوا يحلمون بمستقبل تحترم فيه آدميتهم ويتساوون فيه مع أدعياء التميز من أصحاب النفوذ ومغتصبي حقوق الشعب، وفي سبيل ذلك دفع العديد منهم أرواحهم ودماءهم ضريبة لهذا الحلم، هل عليهم التنازل عن هذا الحلم حتى يتم التوصل إلى توافق يرضي الطرف الآخر، أم هل على هواة القتل والمتعطشين لمشاهد الدم الذين قتلوا مئات إن لم يكن آلاف اليمنيين في الشمال والجنوب ومن أدمنوا الاغتصاب والسلب والنهب أن يتنازلوا عن شهيتهم هذه ولو مؤقتا حتى يساهموا في حالة التوافق الذي يسعى المتحاورون للوصول إليه؟ هل على ضحايا النهب والسلب والإقصاء في الجنوب أن يتنازلوا عما سلب من حقوقهم من الأرض والثروة والمنشآت ومؤسسات الدولة حتى يتجنبوا غضب الناهبين ويساهموا في خلق حالة التوافق المنشودة؟ أم أن المطلوب من النهابين أن يكتفوا بما نهبوا ويتوقفوا عند هذه النقطة من النهب والسلب حتى يقنعوا ضحاياهم على مدى عشرات السنوات بالتوافق معهم على الخروج بقرارات مشتركة في مؤتمر الحوار الوطني؟
من المشاهد التي جاء بها مؤتمر الحوار الوطني أن د. رشاد العليمي وزير الداخلية ونائب رئيس الوزراء السابق هو أحد مندوبي حزب المؤتمر الشعبي العام في الحوار الوطني، ولا شك أن معه العديد ممن قاد أعمال البلطجة، أو ساهم في ملاحقة نشطاء الحراك السلمي وقيادة الحملات الإعلامية ضد الحراك السلمي والثورة الشبابية السلمية، ويشارك من الضحايا السابقين للعليمي وزملائه كل من الكاتب عبد الكريم الخيواني السجين مرتين على خلفية تصديه لمشروع التوريث، عندما كان العليمي وزيرا ومن المشاركين الآخرن من الضحايا كل من العميد المبعد قاسم عثمان الداعري وأحمد القنع السجينين لأكثر من مرة بدون تهمه سوى الانخراط في الحراك الجنوبي السلمي، ومن المؤكد أن عشرات الحالات المشابهة للخيواني والداعري والقنع تشارك في المؤتمر كضحايا سابقة للعليمي وأمثاله ممن يشاركون في أعمال المؤتمر.
لقد تنازل الخيواني والداعري والقنع وبقية الضحايا مثلما تنازل أهالي شهداء الحراك والثورة عن المطالبة بمحاكمة العليمي وأمثاله من القتلة أو من وجهوا بقتل الشباب أو تفننوا في تبرير القتل ناهيك عمن قاموا بقيادة حملات الاعتقالات والتنكيل والقمع بحق كل من تجرأ وقال كلمة حق ولو بسيطة في وجه سلطانهم الأشد جورا وظلما، فعماذا تنازل العليمي وأمثاله؟
ويعود السؤال مرة أخرى: عماذا سيتناول النهابون والمغتصبون وآكلو أموال الشعب في الشمال والجنوب؟ عماذا سيتناول الذين استولوا على عشرات الكيلو مترات من الأراضي في عدن ولحج وأبين وحضرموت وبقية مناطق الجنوب؟ عماذا سيتناول الذين أغتصبوا مساكن الفقراء في مدن الجنوب وعماذا سيتناول الذين نهبوا موارد الثروة الجنوبية من الأسماك إلى البترول والغاز وموانئ الاصطياد والمزارع الحكومية والتعاونية؟ عماذا سيتنازل الذين نهبوا أراضي الحديدة ونفط مأرب والمسيلة والذين دمروا وأبادوا أسماك البحرين الأحمر والعربي؟. . . ومثلها عشرات الأسئلة المشابهة، . . . وإذا ما تنازل هؤلاء عن كل ما نهبوا وتوقفوا عن ارتكاب كل ما ارتكبوا من جنايات في حق الشعب، هل هذا سيحولهم إلى أبرياء شرفاء مطهرين مثل يوم ولدتهم أمهاتهم؟
إن شعار التنازل المتبادل هو سؤال ملغوم قد يقدم بعض المسكنات الوقتية لبعض الالتهابات الحادة هنا وهناك، لكنه قد يؤسس لمشكلات أخلاقية وإنسانية وحقوقية وسياسية مستقبلية لا يمكن التنبؤ بمساراتها وتداعياتها الكثيرة، ذلك إن ثنائية الجلاد والضحية لن يكون فيها من يتنازل إلا الضحية وحده أما الجلاد وهو هنا القاتل والسالب والناهب والمغتصب والمتنفذ فإنه مهما تظاهر بالتنازل لن يفعل سوى إعادة بعض الحق لأهله (هذا إذا ما فعل) وحتى لو فعل كل هذا فهو أيضاً الرابح، ببساطة لأن مجرد عدم مساءلته عن كل أفعاله طوال العقدين أو الثلاثة العقود الماضية يعود عليه بمنافع لا يراها إلا ضحايا تلك الممارسات من المشردين والمعبدين والمقموعين والمنكل بهم ومسلوبي الحقوق ومنهوبي الأملاك ومن خسروا مصادر معيشتهم وحقوقهم الخدمية الضرورية، وهؤلاء (الضحايا) هم بمئات الآلاف إن لم يكونوا بالملايين، وهنا على دعاة التنازل المتبادل أن يضعوا نصب أعينهم حق الضحايا في التعويض العادل، كما إن التنازل الوحيد الذي يمكن أن يقدمه الضحايا بعد أن خسروا كل شيء، هو عدم المطالبة بإحالة الجناة إلى القضا، وهو تنازل طوعي يمكنهم القيام به ولهم كامل الحق في رفضه ولا يستطيع أحد أن يكرههم على التنازل عن الاقتصاص ممن جنى عليهم وعلى الوطن على السواء.
وللحديث بقية
برقيات
* من أطرف آخر الأخبار ما تناقلته بعض المواقع الإلكترونية عن نوايا خليجية ودولية لتكليف رئيس اليمن المخلوع، كمبعوث لتسوية الأزمة السورية، لا يمكن الجزم بصحة أو زيف تلك التسريبات، لكن ما يمكن توقعه إن صحت هو التأجيج الأوسع للأزمة تماما كما كان يحصل في الصومال عندما كانت اليمن تتوسط لتزداد الأمور اشتعالا مع تنامي دخول الأسلحة من اليمن إلى الطرفين المتحاربين.
الحديث عن استمرا المشاورات حول إعادة النظر في رئاسة لجنة صعدة في مؤتمر الحوار يبين حجم الصدمة التي أصابت الذين لم يعتادوا على سماع صوت المرأة إلا في المطبخ، سيكون إسقاط الكاتبة نبيلة الزبير من رئاسة اللجنة فضيحة كبرى لكل المتشدقين بحقوق المرأة وتعرية لكل الذين "يقولون ما لا يفعلون".
* لا أستطيع أن أفهم ما هي الموانع التي تقف دون إطلاق سراح المعتقلين الجنوبيين: أحمد المرقشي، بجاش الأغبري، حسن بنان وغيرهم من المعتقلين من الحراك السلمي والثورة الشبابية السلمية المخفيين قسرا في سجون ألأمن السياسي والقومي والمركزي، بينما يعلم قادة السلطة بما في ذلك رئيس الجمهورية أن هؤلاء معتقلون سياسيون كل ذنبهم أن النظام السابق نكل بهم على خلفية نشاطات يقر بها اليوم كل الفرقاء السياسيين اليمنيين.
* يقول الشاعر العباسي عبد الله بن المبارك:
وَمِن البَلاءِ وَللَـــــبلاءِ عَلاَمةٌ أنْ لا يرَى لك عنْ هواكَ نزوعُ
العَبدُ عَبدُ النَفسِ فِي شَهَوَاتِها والحرُّ يشـــــــــبعُ مرة ويــــجوعُ