يحضرني هنا بعض ما قالته شخصيات سياسية بارزة في الجمهورية اليمنية عن الجنوب.. وهذا التفكير على أعلى مستوى إنما يدل على عمق الخلل في التفكير تجاه الآخر، وهو ما تجسد بعد ذلك في سلوكيات صنعاء وممارساتها على أرض الجنوب، الأمر الذي أجهض مشروع الوحدة في مهده، وخلق محاذير لا حدود لها من طرف الجنوبيين ممن وقعوا تحت وطأة العبث والبطش والنهب والإقصاء.
هذا ما قاله ذات يوم أبرز الشخصيات السياسية الراحل عبدالكريم الإرياني :
"لقد ابتلعنا الجنوب ولم يبقَ لنا إلا هضمه"، وهو قول لا يقل فضاضة وبشاعة عن قول أبرز القادة الإيرانيين "لقد باتت صنعاء الدولة العربية الرابعة التي في أيدينا". من جهة أخرى قال رئيس مجلس النواب وشيخ مشايخ حاشد عبدالله بن حسين الأحمر "لقد عاد الفرع إلى الأصل". قول بمنتهى الوضوح في الاختزال والتفكير، بل يلخص مفهوم التعاطي مع الجنوب، وهو الحال الذي أباح لمثلث التحكم في صنعاء استخدام فرط السطوة ضد الجنوب، الأمر الذي مكنهم من نهش مقدراته، ولم يحصل في تاريخ أي بلد أن تم بيع مخزونه النفطي الذي مازال في أعماق الأرض إلا بما حصل لنفط الجنوب.. وهكذا الحال بالنسبة للثروات الأخرى.
لقد مضت بنا عقود من المعاناة البالغة، بل والقاسية، بضرب وسفك دمائنا باسم الوحدة ونهب ثرواتنا بنفس الطريقة أيضاً، لا بل قد تحول مجتمعنا الجنوبي إلى حطام ومعاناة لا توصف.
لقد تم الاستئثار بكل ثرواتنا، ومازال الوضع ماثلاً في قبضة الأيادي التي لا تريد أن ترخي قبضتها، بل مازالت طامحة لإعادتنا إلى مربع المعاناة، متجاوزة صفحة مآسينا الدامية وعذابات عقود خلت لم تمثل لهم فيها سوى طريدة تتناهشها أنيابهم الحادة دون رحمة.
وهنا يبرز السؤال: بعد كل سنوات العذاب الماضية ما الذي استُجِدّ على مسرح الحياة السياسية بالنسبة لليمن؟ وما الذي تبدل أو سوف يتبدل في منظومة الحكم والسيطرة؟ وهل نحن أمام لاعبين جدد في المعادلة؟.. الثابت أن لا شيء تبدل مطلقاً.
الماضي هو ما يتوقع تكراره في نمط التسويات السياسية القادمة التي لا يمكنها أن تأتي بجديد طالما وهذا القديم يفرض نفسه بقوة في نطاق المعادلات الجديدة من منظور تاريخي وقبلي وعسكري..
واقع لا يمكن لشعب الجنوب الذي قدم كل هذه التضحيات القبول به.. والثابت أن من اعتبر فرعاً ذات يوم عند هؤلاء ظل يقاوم الاستعباد بضراوة شديدة، وهو يرى نفسه وقد خرج من نطاق تلك القبضة المهيمنة، ولا سبيل- وفق معطيات الواقع- بالعودة إلى ماضي الوجع والألم والأسى والقهر، أو هكذا تمضي إرادة شعبنا التي يسعي البعض من منظور مصالحه الشخصية إلى وضع العراقيل إزائها.
وطالما كنا عصيين على الفهم على مدى العقود الماضية، فلا مجال للحديث عن طريقة ابتلاع وهضم جديدة، ربما لأننا استوعبنا عبرا ودروسا كثيرة، وتجرعنا مرارة لا حدود لها
ولا مجال بالمطلق لاستثارة ثورة تلك العواطف التي رمت بنا في مهب الأنواء بلا رحمة .