كل القضايا الوطنية ومنها القضية الجنوبية وقضية صعدة أنتجها الواقع السياسي الفاسد في اليمن خلال العقود الأخيرة بسبب غياب الدولة, اعني دولة المؤسسات لا دولة الأسر أو الأفراد, اعني دولة النظام والقانون لا دولة القبيِلة, اعني دولة المواطنة المتساوية لا دولة الطوائف أو المذاهب أو السلالة, أعني دولة التبادل السلمي للسلطة لا دولة تزوير الانتخابات بعدة طرق.
تمنت أسرة بيت حميد الدين وأسر كثيرة كانت مشاركة في السلطة قبل عام 62م أو حتى محسوبة على السلطة بعد سقوط نظام حكمهم وجود دولة تحمي ممتلكاتهم وبيوتهم واسرهم من الفيد والتهجير والنهب والعبث والمصادرة, وكذلك تمنى واحتاج آل الأحمر وعلي محسن ومن دار في فلكهم من نافذين قبليين وعسكريين ودينيين للدولة لتحمي ممتلكاتهم وبيوتهم ولا تجعلها عرضة للنهب أو التفجير أو المصادرة, كذلك سيتمنى أي طرف سياسي أو جهة ما حاكمة وجود الدولة في مرحلة لاحقه لحمايتهم من عمليات انتقامية متوقعه اذا سقط حكمهم أو ضعفت سيطرتهم بعد حين من الزمن قد يطول لعقود أو يقصر لسنوات.
استمرار غياب الدولة سيؤدي الى استمرار الصراعات والفتن والحروب والتدخلات الإقليمية والدولية, صحيح أنه قد يتمكن طرف سياسي من حسم معركة هنا أو هناك لكن الحرب ستستمر وستجد لها من يمولها من الداخل والخارج ليستمر اليمن ساحة لتصفية الصراعات الإقليمية.
نحتاج الدولة لتتصدر هي دون غيرها لملف حفظ الأمن في مختلف المحافظات ومحاربة الإرهاب لأن قيام أي مجموعات أو تيارات سياسية بتنفيذ تلك المهمات –خارج سياق المؤسسات الرسمية- سيؤدي الى عدم التفاف المجتمع بكامله حول معالجة تلك القضايا, وستصبح تلك الملفات ومعالجتها حكراً على تيارات بعينها, وهذا سيؤدي الى أن تسعى تيارات مُعينة الى افشال تلك المعالجات من باب المناكفات والصراعات والخلافات السياسية حتى لا تتمكن التياراات التي تتصدر معالجة تلك الملفات من التوسع أكثر وأكثر بدافع من نجاحها في تلك المهمة.
الا أنه ومن خلال التجربة ثبت أن أجهزة الدولة الحالية وبوضعها الراهن غير جاهزة للتصدي لمثل تلك الملفات وبالتالي ستضطر مجموعات وتيارت سياسية للتصدي لها بحكم أنها الأكثر تأثراً واستهدافاً من بقاء تلك القضايا دون معالجة, ومن هنا لا مناص من المزاوجة بين العمل على بناء الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية في نفس الوقت الذي تتصدى تلك القوى السياسية لمعالجة الملفات الملحة بغرض وقف نزيف الدم والاغتيالات التي تطال الكثير من كوادرها وحتى من رجال الجيش والأمن والأجانب, بمعنى أن نسارع ببناء الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية ابتداءً من هذه الأيام وذلك بالتزامن مع استمرار عملية مواجهة تلك المجموعات من قبل المجاميع الشعبية, والمسارعة بتسليم تلك الملفات وبالتدريج للأجهزة الرسمية حتى تتحول قضية محاربة تلك المجموعات الى قضية وطنية بدلاً من تصويرها من قبل قوى معينة وكأنها قضايا تخص تيار سياسي بعينه.
قد تكسب بعض التيارات الصاعدة من ضعف أو غياب الدولة وتتمكن من الاستحواذ على الكثير من مقدراتها, لكن تلك الفائدة اشبه بالانتصارات التكتيكية المؤقتة على حساب الانتصار التاريخي والاستراتيجي الأهم وهو انتصار بناء الدولة والذي يبدو أن أمامه الكثير من العوائق حتى الآن.
قد يكسب أي تيار من ضعف أو غياب الدولة مرحلياً, لكنه حتماً سيخسر الكثير في المستقبل بسبب استمرار الصرعات والحروب, فغياب الدولة أهم العوامل التي تؤدي الى عدم الاستقرار وتصنع الكثير من المشكلات والصراعات السياسية.
استمرار الركون الى القوة والحرب لمواجهة التحديات السياسية لا يمكن أن يستمر الى ما لا نهاية, فأي قوة مهما كانت درجة تمكنها تصل الى مرحلة معينة وتصاب بالشيخوخة وتظهر الكثير من التناقضات والصراعات داخلها تؤدي في النهاية الى انهيارها, والتاريخ يشهد بذلك, ولا يوجد مثل واحد لاستمرار قوة أو تيار سياسي بمفرده في الحكم الى ما لا نهاية, الأمثلة الوحيدة المتوقع لها الاستمرار لزمن طويل جداً وقد يكون الى ما لا نهاية هي الأنظمة الديمقراطية التي تتمكن من معالجة الاختلالات والأخطاء أول بأول, ولا يستحوذ فيها طرف معين على السلطة باستمرار, إضافة الى أن هكذا دول ديمقراطية لا توجد فيها دوافع للصراعات والانقلابات لأن اغلب مكوناتها تشعر أنها تأخذ حقها من الحرية والكرامة والمنافسة على السلطة والثروة وبالتالي تنعدم العوامل المنتجة للصراعات أو تتقلص الى حدود دنيا تجعلها غير مؤثرة.
لا استقرار ولا سلام بدون دولة
"نقلاً عن صحيفة الأولى" 28 / 10 / 2014م