الواقع الذي تكشف في اليمن لم يكن وليد اللحظة بقدر ما هو مرتبط بتاريخ هذا البلد الذي تعاقب عليه الظلم والجبروت وسحقت فيه إرادة الإنسان وتطلعاته بصورة لا يمكن معها التطلع إلى ما هو أبعد من ذلك. في بلد يئنُ سكانه تحت وطأة الجهل والفقر والمعاناة وهيمنة أطراف النفوذ على مقدراته والتمكن المطلق من خيراته.
لم تكن عاصفة الحوثي مباغتة للكثير من المتابعين من منظور تراكمات الظلم الذي مارسته السلطات على مدى السنوات الماضية ضد أبناء صعدة تحديداً، إذ استغلت السلطات وضع ست حروب شنتها على “أنصار الله” بهدف إطالة عمرها واستمرار ممارسة النهب للثروات تحت مسمى محاربة “الملكيين” وحفاظاً على الجمهورية كما عملت ـ أعني أطراف النفوذ ـ على تمويل المدارس الدينية التي تذكي الصراع المذهبي، ونشرت الأحقاد على نطاق واسع، الأمر الذي جعلها تلجأ إلى خلق مواجهات مذهبية باعتبارها الجسر الذي تحقق من خلاله الوصول إلى غايات شتى، وتلهي عن أي حراك جماهيري يهدد سلطة بقائها.
بمعنى أدق ما واجهه أنصار الله من ظلم يفوق الوصف، فعلى مدى سنوات ظلت صعدة بعيدة عن أنظار العالم والإعلام حتى لا تتكشف حقائق كثيرة مذهلة جرت على ربوعها الخضراء.. على الجانب الآخر ظلت مأساة الجنوبيين قائمة تحت مسمى الوحدة، وشعاراتها البراقة، وهي المطية الأخرى التي اعتبرها أطراف النفوذ تمثل أفضل السبل لبقاء هيمنتهم، فهي القضية التي يخاطبون من خلالها المشاعر ويدرؤون سوآتهم.
كان القمع والبطش والتنكيل وكافة الأساليب العسكرية والأمنية قد مورست على الجنوبيين، وأرشيف مسيرة سنوات عشر من النضال السلمي التحرري مليء بالكثير من المواجهات الدامية التي شنت من طرف السلطة، أملاً في إخضاع ثورة الجنوب السلمية.. إذ لا يقل سجل السلطة في ما ارتكبت من جرائم بحق الجنوبيين عما جرى في صعدة، بل الأدهى والأمر أن الجنوب مورس بحقه النهب لكافة المقدرات ودرجة عالية من الاستخفاف بحكم بعد هؤلاء عن قبضة السلاح ما جعلهم يبدون الطرف الذي يتعاملون معه بتجاهل تام بعد أن تمكنوا من خلق توافق دولي وإقليمي مع مارسوه من وهم وتضليل عبر اللعب بأدوار كثيرة، ربما نكشف زيفها في هذه الأثناء، بعد تلك السنوات يبدو طرفا معادلة المظلومين على نقيض بعد أن تمكن طرف الحوثيين من مغادرة زاوية معاقلهم إلى فناء العاصمة صنعاء ومحيطها الجغرافي، الحضور الذي ربما خلق حالة خلط في أوراق المجتمعين الدولي والإقليمي على ما فيه من تغيير واسع النطاق على الصعيد الداخلي أيضاً.
لم يعد أنصار الله في زاوية صعدة التي أحرقت عبر سلسلة حروب متتالية، كما أن من المستحيل أصلاً جعل أنصار الله يتخلون عن نصرهم هذا الذي لم يكن ليأتي إلاَّ بشدة بأسهم وآمالهم الواسعة في الحياة بحرية، وهو طموح دون ريب مشروع لكتلة بشرية بحجم أنصار الله ولا يمتلك العالم إلا التعاطي معها باعتبارها تمثل إرادة جماهيرية واسعة النطاق، قاومت الظلم بضراوة.
المثير أن العالم الذي فاجأه حضور أنصار الله في المسرح السياسي اليمني لم يكن يلتفت إلى الوجه الآخر للمأساة على صعيد الجنوب ونضال شعبه على مدى سنوات خلت في سبيل استعادة دولته وكرامته وحريته.
بل والأشد غرابة ما بدرت من تصريحات لقيادات أنصار الله تجاه الجنوب لا توحي بجديد يذكر في طبيعة العقلية اليمنية ونظرتها الجزئية للجنوب، بعيداً عن الواقعية والإحساس بطبيعة معاناة شعب كانت له دولته بعلمها ونشيدها وحضورها على المسرح الدولي، إنهم يتحدثون عن تحقيق العدالة ورد المظالم كما أن أشياء عينية مادية قد سلبت منا يمكن التعويض عنها، متخطين حقائق التاريخ وحقوق شعبنا المشروعة في استعادة دولته، متجاوزين ما ولدته تراكمات القهر والبطش والنهب والتدمير والقتل في نفوس أبناء شعبنا من آثار لا تحصى.
فهل يكرر أنصار الله ما جاء به أسلافهم من أطراف النفوذ التي تناهشت الجنوب أرضا وثروة تحت مسمى الحفاظ على الوحدة؟.. وهل يدرك الأشقاء في الإقليم أن فكرة “دار معمور ولا قرية خراب” هي التي يمكن إن تجسد بعودة الدولة الجنوبية التي يمكنها أن تحفظ للمنطقة شيئا من الجوانب الأمنية المفقودة، وهل يدرك العالم أن بقاءنا في ردهة الحسابات الهامشية أمر لا يمكن أن يطول أمره بحكم جاهزية الإرادة الجنوبية المتلخصة من أتون قهر لا يوصف وعزمها على الاستقلال والحرية؟.. وهل يدرك أنصار الله أن البناء لا يكون إلا على أساس الواقع وليس الواقع الافتراضي الذي علقنا في سبخاته عقوداً خلت.
* الأيام