عندما لا يتم التعامل بموضوعية مع حل القضايا المصيرية فان الثمن الذي يدفع يكون باهضاً, لدينا قضية واضحة ومحددة المعالم والمخاطر كذلك, هربنا من حلها بطريقة تعالج اسباب القضية نفسها الى حلها لمعالجة اسباب قضايا أخرى ومخاوف خاصة وضيقة لدى بعض الأطراف السياسية التقليدية, والنتيجة أننا في طور انتاج ست قضايا جديدة.
اشرت الى تفاصيل كثيرة حول القضية الجنوبية ومخاطر أقلمة اليمن في أكثر من عشرة مقالات يمكن الرجوع اليها من مدونتي, لكني هنا أريد أن انقل بعض مخاوفي من صناعة هويات متعددة داخل اليمن بعدد الأقاليم, وبالتالي التمهيد لوجود دويلات مُستقبلاً.
قد يقول البعض أني ابالغ, اتمنى ذلك, لكن في اليمن كل شيء جائز, فلم يكن أحد يتوقع أن يصل الكثير من المواطنين في الجنوب الى أن يكرهوا شيء اسمه "الوحدة", وكان من سابع المستحيلات أن يتنكر بعض سكان عدن ولحج وأبين والضالع وردفان مثلاً لهويتهم "اليمنية", لكن اخطاء التسعينات أوصلتنا الى هذا الحال, وأخطاءنا الآن قد توصلنا بعد عقدين أو أكثر الى تعدد هويات ومن ثم خلق دويلات.
بعد أن أصابني اليأس بشكل شخصي واقتنعت أنه لا يمكنني لوحدي مع عدد من الكتاب وعلى رأسهم سامي غالب أن نوقف مشروع الأقلمة دون وجود مواقف جدية من قوى سياسية لها وزن, بدأت أفكر في أقل الأضرار منها أولاً على اليمن ومن ثم على محافظتي ذمار.
وعندما بدأت أفكر في ذمار ومصلحة ذمار فان ذلك ليس نابعاً من شعور بتميز ذمار مثلاً, لكنه نابع بشكل أكيد من ارتباطي ومصالحي بهذه المحافظة التي أنتمي اليها جبرياً, عندها أحسست أن قيم الوطنية والمصلحة الجامعة بدأت تتفكك في نفسي وعقلي معاً, وبدأ الوطن يتفسخ في عقلي الباطن كذلك ويتحول من اليمن الى أن يصبح وطني الاقليم الذي فيه محافظتي ذمار.
قلت في نفسي اذا كان هذا حالي وأنا الذي وقفت بقوة تجاه الأقلمة فكيف بالقوى والأشخاص الذين سعوا اليها؟, يجب أن نصارح أنفسنا قليلاً, فنحن بشر, لدينا مصالح وحاجات, واذا لم يتمكن أي منا من تحقيقها في اطار وطن واحد فبالتأكيد سيسعى البعض الى تحقيقها في اطار أي تعدد قادم مهما كانت نتائجه وكارثيته.
سيشعر أبناء كل اقليم بعد مدة أن لديهم مصالح مشتركة, وحدود جغرافية خاصة بهم, وسيشعرون أنهم معنيون بالدفاع عن تلك المصالح والحدود تجاه أي أطراف قد تحاول تجاوزها من أقاليم مجاورة, وستكون بالتأكيد لهم وسائل اعلام تدافع عن مصالح الاقليم وتزايد باسمه وترفع قضيته وتستدر عواطف البسطاء من ابناء الإقليم وتستحثهم للدفاع عن اقليمهم, وتهاجم العدو المفترض, وتصنع خطاباً اعلامياً تجاه الاقليم الآخر وأبناءه, ويبدأ الصراع, وتبدأ الاغاني الحماسية ضد الآخر, والفعل وردة الفعل, وهنا تحديداً ستتكون الهويات الجديدة ومن ثم "القضايا الجديدة" التي أشرت اليها في بداية المقال.
اليمن غير مؤهل الآن -بسبب أوضاعه الحالية التي لا مجال لتفصيلها هنا- لأي انتقال الى فدرالية بأكثر من اقليمين, بل انه غير مؤهل الى فدرالية من اقليمين وسيؤدي سوء التطبيق الى فشل هذا الخيار أيضاً, لكن مخاطر فشله ستكون معروفة سلفاً على الأقل, وسنعود الى ما قبل عام 90م, أما مخاطر الأقاليم السته فالعالم ألله وحدة الى أين سترجعنا؟ هل الى ما قبل الدولة أم الى ما قبل الميلاد؟.
الطامة الكبرى أن طريقة توزيع الأقاليم فُرضت لتلبي حاجات قوى سياسية محلية ودولية لا علاقة لها مُطلقاً بالقضية الجنوبية, التي كان من المفروض أن تغيير شكل الدولة جاء لمعالجتها, كما أن ذلك التقسيم فُرض ليحد من تمدد قوى أخرى جديدة, ولم يخضع لأي معايير علمية أو دراسات موضوعية.
اذا كان الرئيس غير قادر على اتخاذ أبسط القرارات التي تحفظ حتى أمن العاصمة صنعاء, واذا كان عاجزاً عن تغيير قائد لواء في الضالع, أو وقف عزل تعسفي لمدير عام في مؤسسة الكهرباء, فكيف سيتمكن هكذا رئيس "تفكيكي" كما وصفه سامي غالب من الانتقال الآمن الى نظام الأقاليم, وبما يمنع من انزلاق البلد الى مخاطر ومشاكل وقضايا جديدة.
التدافع سنة بشرية, واثناء تدافع بعض المواطنين والقوى السياسية للوصول الى السلطة والثروة لن يحتكموا الى لغة المنطق والعقل, لكنهم سيعبثون بكل قيم المجتمع وسيسعون بشتى الوسائل لتحقيق مصالحهم ضاربين بعرض الحائط بكل ما يجمع أبناء الوطن.
اذا كان مثل هؤلاء الاشخاص أو التيارات السياسية تستخدم اليوم لغة التحريض المناطقي والمذهبي والطائفي ونحن لا نزال في حكم مركزي, فكيف سيفعلون عندما نتحول الى نظام الأقاليم.
هل أصابتنا لعنة القضية الجنوبية؟, لا أؤمن باللعنات لكني أؤمن بأن بيننا ملاعين يجرونا الى مُستقبل مجهول.