ذاكرة الجنوب المُغتَصَبَة: بيوت عدن التي أُقصيت من ذاكرة الوطن

2025-10-16 14:00
ذاكرة الجنوب المُغتَصَبَة: بيوت عدن التي أُقصيت من ذاكرة الوطن

الرئيس جمال عبدالناصر وعلي يمينه عبد القوي المكاوي ويساره محمد سالم باسندوه

شبوه برس - خـاص - عــدن

 

المنسيّون في تاريخ الجنوب.. ذاكرة لا تموت

 

*- شبوة برس - جسار مكاوي المحامي

حين يكتب أبناء عدن عن آبائهم المناضلين، فهم لا يطلبون مجدًا، بل إنصافًا لذاكرةٍ حقيقية حاول البعض طمسها. إن تاريخ آبائنا ونضالهم ليس عنوانًا فرعيًا، ولن يكون رقمًا صغيرًا في هوامش الذاكرة، بل هو رقم صعب وعنوان تاريخ متميز ومستمر ما شاء الله له أن يكون. أما آن الأوان أن نمنح الذين سبقونا في العمل النضالي فرصتهم في التعريف بهم، وتوضيح صورتهم ونقلها للأجيال القادمة؟ فلا يزال الخطاب الإعلامي محصورًا في تاريخ فصيل الجبهة القومية وحركة القوميين العرب، بينما الساحة الجنوبية، وخصوصًا عدن، كانت مهدًا للعمل النضالي والفكري التنويري، نتيجة عوامل عدة ساعدت في نشأتها وإيصال صوتها .

 

لكن أن يظل التهميش مكرسًا بحق هؤلاء الأبطال، فهذا ما لا يصح ولا يجوز. هناك أسماء لشخصيات عدنية وجنوبية تحمل معها تاريخًا مشرفًا، ورغم تضحياتها الجسيمة، شوهت صورتها أمام الأجيال جيلًا بعد جيل. فهل من المقبول أن نظل، نحن أبناء وأسر هؤلاء، نشاهد هذا التجاهل التام بحق أجدادنا وآبائنا؟ ولصالح من كل ذلك الضيم الذي نراه؟ كلما تابعت برنامجًا حول الثورة وذكراها وثوارها، لا أجد إلا مشهدًا واحدًا رمزيته فصيل الجبهة القومية وحركة القوميين العرب، و كأن التاريخ رفض الحديث عن مناضلين تواجدوا في الساحات حتى اللحظات الأخيرة، بل وحتى اليوم. كل بيت في عدن أو الجنوب يضم من كل فصيل وحركة سياسية وثقافية واجتماعية من ينتمي إليها؛ اختلفت الأفكار، لكن المبادئ كانت واحدة، ولم يكن من حق أحد إلغاء الآخر في ظل الظروف المحيطة بهم.

 

للأسف الشديد، تم منح كرت الوطنية لأناس لم ولن يشعلوا جذوة النضال، ومع ذلك ارتضينا، وقلنا كما قال آباؤنا: من أجل الأرض والإنسان! وما كانت النتيجة إلا استهداف أولئك المناضلين المنسيين في تاريخٍ سيطر عليه من أراد الحفاظ على مواقعهم التي اغتنموها.

 

لم أكن أنوي الخوض في هذا، فأنا ابنُ أحد هذه الأسر والبيوت – أبا وأمًا، رحمهما الله – من بيتين كبيرين عرفتهما عدن منذ عقود طويلة. لكنها ليست رسالتي وحدي، بل هي رسالة الكثيرين في عدن ومحافظات الجنوب الأبية، من لحج إلى المهرة، إلى سقطرى، وإلى كل ركنٍ من الجنوب العربي. فإلى متى نهمل أسماء وشخصيات سياسية مناضلة عُرفت بتاريخها النضالي، وقد دفعت ثمن مواقفها غاليًا، ثمنًا لا يزال يحمله أبناؤهم من بعدهم؟ إرثٌ تاريخيّ متجدد، يقابله تغافل و تهميش متعمد متواصل، وكأن الذاكرة الجنوبية لا يُراد لها أن تكون شاملة لكل من صنع المجد وضحّى لأجله. لم يدفعنا أحد إلى كتابة هذا المقال، ولم نتعلم الخيانة يومًا. بل وُصمنا زورًا بالعمالة وبأننا أذناب للاستعمار! فكيف انقلب بنا الحال، نحن وأسرنا وأهلنا، من بيوت نضال وخير إلى متهمين بالخيانة؟ بل نقولها بثقة: نحن من أوائل من استقالوا من مناصبهم في شركة BESS بعدن، وغادروا مواقعهم الوظيفية من أجل الثورة التي نتحدث عنها كل عام. ونحن من أوائل من تبرعوا بتركَة آبائهم دعمًا لتلك الثورة واستمرارها. ونحن كذلك من أوائل من وُصفوا بالعملاء وأذناب الاستعمار، مع كبار المناضلين من عدن وسائر محافظات الجنوب. فلماذا، بعد كل ذلك، يستمر الخطاب الإعلامي ـ أيًّا كان نوعه أو شكله ـ في طمس دورنا، ودفن الحقيقة تحت رمال التهميش، وإبراز أدوارٍ أخرى دون إنصاف أو عدالة في تاريخ النضال الجنوبي، لا سيما في عدن، مهد الثورة و بوابة الوعي؟.

 

أكتب اليوم لا من منطلق مركّب النقص الذي قد يُصاب به البعض، بل من منطلق القوة في الحضور، والعمق في التاريخ، والعطاء المتجذر فينا كبيوتٍ وأسرٍ عدنيةٍ أصيلة، حملت على عاتقها شرف الموقف وصدق الانتماء.

 

وهنا، لا أوجّه اتهامي إلى المجلس الانتقالي الجنوبي ولا إلى قيادته، بل إلى أولئك الذين يقفون في الظلال، ممن عملوا على تجسيد هذا التهميش ويصرّون على استمراره، خدمةً لمصالح ضيقة ورؤى لا تمتّ إلى العدالة التاريخية بصلة. إن زمن التفرد بالسلطة، والثورية التي غلبت على مشهدنا السياسي لعقود، لم تعد قادرة على إنتاج حياةٍ حقيقية، ولا على تحقيق أي تنميةٍ تُذكر. بل إنها ما تزال تعيد إنتاج الأخطاء ذاتها، بأساليب جديدة وأسماء قديمة.

 

هذا ما لمسناه، وهذا ما نشهده اليوم؛ انهزامٌ حقيقيّ في المشهد، تُعيد رسم ملامحه ذات الأيدي التي كتبت تاريخنا سابقًا، وما زالت تكتب حاضرنا من خلف الستار، مستخدمة الأدوات ذاتها التي أورثت أجيالنا التغرير بتاريخ آبائنا وأهلنا، وأفرغت نضالهم من مضمونه الحقيقي.

 

وخاتمة القول، إن هذا الحديث لن يقف عند هذا الحد ما دمنا أحياء، نحمل في ذاكرتنا حقائق لم تُكتب بعد، وإرثًا لن يُمحى مهما حاولوا. فعدن والجنوب لا ينسى أبناءه، والتاريخ لا يُكتب بالرغبة، بل بالصدق، وبدماء الذين آمنوا أن الحرية لا تموت، وإن غُيِّب ذِكر أصحابها. إن تاريخ آبائنا ونضالهم ليس عنوانًا فرعيًا، ولن يكون رقمًا صغيرًا في هوامش الذاكرة، بل هو رقم صعب، وعنوان تاريخٍ متميزٍ ومستمر، ما شاء الله له أن يكون.