التاريخ خير شاهد على تفرد الهوية الجنوبية وتنوعها عن أي هوية أخرى، حيث كانت جزيرة سقطرى ومحافظة المهرة موطناً للغات قديمة تعود جذورها إلى الحضارة الجنوبية القديمة، وهي اللغتان السقطرية والمهرية. امتزجت هذه اللغات بتاريخ الجنوب وثقافته وشكلت جزءاً مهماً من هويته. لكن في العقود الأخيرة، وخصوصاً بعد الوحدة اليمنية عام 1990، تعرضت اللغتان لمحاولات تهميش ممنهجة، أدت إلى تقليص استخدامهما في الحياة العامة، وإضعاف حضورهما في الأوساط التعليمية والإعلامية، حتى باتتا مهددتين حرفياً.
تتميز اللغة السقطرية والمهرية بأنهما من أقدم اللغات السامية الجنوبية الحية، وهما لا تكتبان بل تتوارثان شفهياً عبر الأجيال. ولعدة قرون، ظلت هذه اللغات رمزاً للهوية الجنوبية المتنوعة، تستخدم في الشعر والأمثال الشعبية والمناسبات الاجتماعية. لكن مع تغير الأنظمة السياسية وتنامي سياسات المركزية التي فرضتها الحكومات المتعاقبة في صنعاء، تعرض هذا الإرث اللغوي لضغوط كبيرة، بدأت تتضح بشكل أكبر بعد الوحدة اليمنية التي أعقبتها سياسات فرضت هوية ثقافية موحدة مهيمنه تهمش الخصوصيات المحلية في الجنوب.
أولى خطوات التهميش تمثلت في عدم الاعتراف بالسقطرية والمهرية في المؤسسات التعليمية والإعلامية. لم تدرس اللغتان في المناهج الدراسية حيث لا يمكن أن نجد أي منهج دراسي تكلم عنهما، مما أدى إلى انقطاع بعض من الأجيال الجديدة عن لغتهم المحلية. كما لم يتوقف التهميش عند التعليم، بل امتد إلى المجال الإعلامي، حيث غابت السقطرية والمهرية تماماً عن القنوات الرسمية، ولم تخصص لهما أي برامج إذاعية أو تلفزيونية، في وقت كانت فيه اللهجات الشمالية تحظى بتمثيل واسع في وسائل الإعلام. هذا التغييب هو إهمال مقصود، جاء ضمن سياسة ممنهجة تهدف إلى فرض ثقافة يمنية ذات طابع شمالي، تتجاهل التنوع الفريد في الجنوب.
في الحياة العامة، بدأ استخدام اللغتين يتقلص تدريجياً خلال الثلاثة العقود المنقضية. كما أن التغييرات التي طرأت على الأسماء والسجلات الرسمية في المهرة وسقطرى، والتي استبدلت ببعض المصطلحات ذات الطابع الشمالي، ساهمت في إضعاف الهوية اللغوية للسكان. ونتيجة لهذا التهميش، بات الجيل الجديد أقل إهتماماً بهما.
رغم هذه المحاولات لطمس الإرث اللغوي الجنوبي، لا يزال هناك جهد توليه القيادة الجنوبية ممثلة بالرئيس عيدروس الزبيدي للتمسك باللغتين السقطرية والمهرية كمصدر فخر واعتزاز بالهوية الجنوبية. حيث ظهرت جهود حثيثة للحفاظ على هذه اللغتين، من خلال إبرازهما إعلامياً والإحتفال السنوي بهما، ومحاولات تدوين مفرداتهما. وتعزيز حضورهما. كما أن الوعي المتزايد بأهمية الحفاظ على الهوية الجنوبية، أعاد إحياء النقاش حول ضرورة التمسك باللغتين السقطرية والمهرية وإبرازهما. فما تعرضت له اللغتان السقطرية والمهرية هو جزء من سياسة تهميش أوسع استهدفت كل ما يتعلق بالجنوب. ضمن نهج يهدف إلى صهر الجنوب في منظومة ثقافية يمنية لا تعكس تاريخه ولا تعترف بتنوعه. ومع ذلك، فإن مقاومة هذا التهميش مستمرة، لأن التنوع اللغوي هو ذاكرة شعب الجنوب الذي يحفظ تاريخهم وثقافتهم وهويتهم.
*- شبوة برس – عين الجنوب