عدن في عيون وقحة

2024-10-19 16:40

 

عدن المدينة التي تمتزج فيها حضارة الشرق وعظمة البحر كانت ولا تزال نقطة التقاء للتاريخ والحاضر والمستقبل. على مر العصور كانت عدن شاهدة على تحولات سياسية وجغرافية وثقافية جعلتها واحدة من المدن الأكثر أهمية في منطقة شبه الجزيرة العربية.. مدينة ولدت من رحم التجارة والإبحار، واكتسبت عبر القرون طابعًا خاصًا جعلها رمزًا للتعايش والانفتاح، لكنها اليوم تعيش أزمة من نوع آخر، أزمة تتجاوز الحدود الجغرافية والتاريخية، أزمة تحمل بصمات "عيون وقحة" لا ترى فيها إلا ميدانًا لتحقيق مصالح آنية ضيقة.

 

هذه العيون وقحة لأنها لا تقدر عدن على حقيقتها، فهي عيون لا ترى إلا المكاسب، تتجاهل معاناة المدينة وأهلها، وتحولها إلى مجرد ساحة لتصفية الحسابات السياسية أو استغلال مواردها الاقتصادية. إنها عيون تأتي محملة بجشعٍ لا يعرف حدودًا، تغطيها غشاوة الجهل بالتاريخ وبما تمثله هذه المدينة للبشرية.

 

عدن ليست مجرد ميناء أو موقع جغرافي، إنها نبض حياة، وتاريخ يمتد عبر الزمن، ويعود إلى أزمنة ما قبل الميلاد، فقد كانت هذه المدينة مقصدًا للتجار والمغامرين، والشعوب التي رأت فيها بوابة للأمل والتطور، لكن هذه العيون الوقحة اليوم تعيش في جهل مطبق بتاريخ المدينة العريق وبقدرتها على الصمود والتجدد.

 

إن هؤلاء الذين ينظرون إلى عدن على أنها غنيمة سياسية أو اقتصادية يفشلون في رؤية أن المدينة أكبر من أن تُختزل في مجرد معركة للنفوذ. إن تاريخها يعلمنا أن عدن قد تجاوزت محنًا أكبر من الطموحات الشخصية والأجندات الضيقة عيونهم الوقحة لا ترى إلا ما يريده طموحهم المريض: السيطرة، الثروة، النفوذ. هذه العيون فشلت في تقدير عظمة المدينة، وتجاهلت معاناة سكانها، الذين يعانون من تردي الخدمات، وانعدام الأمن، وفساد الإدارات العامة التي حولت الحياة اليومية إلى معركة بقاء.

 

ما يغيب عن هذه العيون هو أن عدن ليست مجرد مدينة عادية، إنها رمز للوحدة الوطنية والثقافية. هي مدينة تشكلت فيها الهويات المتعددة والتقاليد المتنوعة، حيث تجد فيها تأثيرات من شبه القارة الهندية، وأفريقيا، والجزيرة العربية، وأوروبا. هذا الانصهار الثقافي الفريد جعل من عدن نموذجًا للتعايش، وهي خصائص نادرة تتعرض اليوم للخطر بسبب التناحر المستمر وسوء الإدارة.

 

إن العيون الوقحة لا تقتصر على السياسيين فقط، فهناك تجار الحروب والنهب الذين يرون في المدينة فرصة لزيادة أرباحهم على حساب أهلها. هؤلاء يستغلون الفوضى لنقل الثروات والموارد خارج المدينة، متجاهلين الأضرار الاجتماعية والاقتصادية التي يتركونها خلفهم. عدن ليست مجرد محطة في مشروعاتهم النفعية، بل هي كيان حي يتطلب الاعتراف بحقوقه.

 

وعلى الرغم من كل هذه التحديات تظل عدن في قلب العاصفة قوية وصامدة. روح المدينة لا تنكسر بسهولة. إنها مدينة تملك القدرة على التجدد بفضل أهلها الذين ورثوا العزيمة من أسلافهم. في خضم كل هذا الخراب هناك أمل. أمل ينبع من إيمان سكان عدن بتاريخهم ومستقبلهم. المدينة قد تتعرض لمحاولات التهميش، ولكنها ليست قابلة للانهيار، لأنها أكبر من أي مشروع أو شخص يحاول استغلالها.

 

إن مستقبل عدن لن يتحقق بالعيون الوقحة، بل بالقلوب التي تحب المدينة وتؤمن بقيمتها الحضارية والإنسانية. الحل لن يأتي من الخارج، ولن يُفرض بقرارات فوقية، بل سيولد من الداخل، من إرادة شعبها الذي يعشق هذه المدينة ويؤمن بأنها تستحق الأفضل. عدن كانت وستظل مدينة تحمل في طياتها معاني الأمل، ورمزًا للصمود في وجه التحديات.

 

المدينة لا تحتاج إلى عيون وقحة تسعى وراء المكاسب الآنية، بل إلى نظرة حانية تعيد إليها بريقها وتحقق لها ما تستحقه من عدالة وتنمية. عدن ليست مجرد معركة سياسية؛ إنها روح أمة وتجسيد للتاريخ والمستقبل في آن واحد.

*- جسار مكاوي