الممر الإماراتي إلى غزة.. الهبّة من محمد بن زايد

2024-03-12 23:08

 

في كل محطات حضورها السياسي في الأزمات الدولية قبل الإقليمية، تعلمنا الإمارات درسا متكررا في التعامل مع الواقع تستحضره القيادة السياسية الإماراتية بطريقة فيها الكثير من الخصوصية تصل حد الامتياز وهذه إشارة مهمة يجب استحضارها مع الإعلان عن الممر الإغاثي من قبرص إلى غزة.

 

الفكرة التي عملت عليها الإمارات، جاءت من استيعاب للواقع السياسي المحدد بعد هجوم حماس المباغت في السابع من أكتوبر 2023، وجاء الرد الإسرائيلي يفوق ما يمكن تقديره عند الحمساويين ومحور إيران الذي قرر الانقلاب على مسار السلام السعودي – الإسرائيلي. ما حاول فعله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان واضحاً، وهو دفع الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء المصرية. الإماراتيون من جهتهم استوعبوا أن عليهم أولاً دعم ومساندة المصريين والأردنيين معاً في رفضهم لسياسة التهجير بإبقاء الفلسطينيين في القطاع مهما كان الثمن.

 

العملية العسكرية الإسرائيلية القاسية استدعت من الدبلوماسية الإماراتية، من خلال عضويتها في مجلس الأمن الدولي، تمرير قرارات متوالية لوقف الحرب في غزة، غير أن هذه المحاولات أجهضت من قبل الولايات المتحدة بالفيتو. أظهرت الإمارات موقفاً موازياً منذ قمة القاهرة فهي كانت تدرك أن المسألة تتعلق بما هو أكبر من بشاعة الحرب لأن جوهر القضية الفلسطينية كلها على محك حقيقي، ومنع التهجير القسري والإبقاء على الشعب الفلسطيني في القطاع يعنيان أن تبقى القضية موجودة، وهو ما يعني أيضا أن فرصة إقامة الدولة ممكنة حتى وإن وسعت إسرائيل عمليتها العسكرية إلى حدود أبعد، فالمهم أن تبقى القضية ولا تتم تصفيتها، فالمعادلة إن لم يكن هناك شعب على الأرض الفلسطينية لن يكون بالأصل هناك معطى لوجود الدولة.

 

سياسات الضغط الإسرائيلية دفعت بما يقدر بمليوني إنسان إلى التكدس في رفح وهي النقطة الأخيرة في معركة “صفرية” تعتمدها إسرائيل من خلال اتباع نهج التجويع، وهي مأساة تناقلها الإعلام مع عجز دوليّ عن التعامل مع كارثة حقيقية. مساعدات الإغاثة المكدسة في المنفذ البري الوحيد على الحدود المصرية أدخلتها إسرائيل عنوة ضمن أوراقها التفاوضية في أية تسوية ممكنة أقصى ما بلغته هو التفاوض على هدنة لمدة أسابيع ليس إلا. الرهانات الإسرائيلية قائمة على إخضاع الجانب الفلسطيني لإرادة القرار المتصلب، لتأتي عمليات الإنزال الجوية الأردنية - المصرية – الإماراتية ضمن عمليات الفارس الشهم 3 وطيور الخير لمدّ الكتلة البشرية بما تيسر من مساعدات الإغاثة.

 

قدمت الإمارات مبادرتها خارج الحلقة المفرغة من المداولات الهادفة لسياسات الأمر الواقع التي تريدها إسرائيل؛ لا فرصة أخرى غير ابتكار حلّ يوازن بين الإبقاء على القضية الفلسطينية مع إغاثة مئات الآلاف من المحشورين في رفح. الممر البحري الإغاثي يمثل الحل الممكن للتوازن، فلا إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تستطيع إقناع نتنياهو، ولا هي تملك الإرادة العسكرية لمواجهة أوسع مع إيران وأذرعها. إذن، لا حلول سوى أن تكون الولايات المتحدة مع المجتمع الدولي أمام إنشاء ميناء غزة المؤقت الذي ستصل إليه مساعدات الإغاثة لتوزيعها على الناس ليبقوا أحياء وتبقى القضية الفلسطينية معهم حيّة كذلك، وبذلك تفشل إسرائيل في هدف تصفية القضية.

 

الإعلان الرسمي عن الممر البحري والتوافق الدولي حوله، وإن كانا نجاحاً إماراتياً دبلوماسياً، في جانبهما الأكثر أهمية يظهر أن هناك في أبوظبي رجالا ونساء يفكرون في ابتكار حلول أخرى ولا يكتفون كغيرهم بإنزال لعناتهم على الظلام. إضاءة شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف عام، عبارة تلخص الفعل الإماراتي، مع انعدام الحلول وتصلب المواقف بين الأطراف المنخرطة في حرب مختلفة لم تكن المنطقة وحتى العالم بحاجة إليها أبداً. والتعامل بواقعية درس جدير بالتعلم منه دائماً من الإمارات، فهذا ما فعلته وتفعله في كل مرة تنعدم فيها الوسائل، ليبقى الابتكار الدبلوماسي حاضراً في ذهنية التفكير السياسي الإماراتي.

 

لوجستيات إنشاء الميناء البحري وتوزيع المساعدات هي تفصيلات قد تتطلب قراراً من مجلس الأمن الدولي لتوفير الحماية اللازمة للرصيف والسفن المحملة بأطنان المساعدات الإغاثية. الممر سيخفف الضغوط عن الولايات المتحدة، ولكن في المقابل ستبقى في ضغط يجب ألا يتوقف مهما كانت الإجراءات التي ستعالج الوضع البائس في قطاع غزة. الحديث يجب ألا ينتهي عند أهمية الأيام التالية، فما حدث لا يمكن اعتباره حادثاً عابراً اعتيادياً، وإن كان الشرق الأوسط بالفعل قد اعتاد عليه عبر أحداث وأزمنة طويلة بدأت عام 1947 ثم تكررت في صبرا وشاتيلا وقانا وبيروت ودير البلح، ولم يكن مؤتمر مدريد للسلام غير ممر سياسي أدى لاتفاقيات أوسلو ووادي عربة، ولا يجب أن ينتهي عند الاتفاقيات الإبراهيمية بحال من الأحوال.

 

رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد يظهر في عتمة الأيام كرجل يحمل الفرص والحلول الإبداعية المبتكرة للحفاظ على القيم والثوابت تجاه التزامات دولة الإمارات وشعبها حيال القضية الفلسطينية ومركزيتها، والمحافظة على التزامها الأخلاقي نحو الدعم اللامحدود إنسانياً. معادن الرجال تظهر دائماً في هكذا مواقف تكتبها سجلات التاريخ ثم تتداولها الأجيال. لم يتأثر الإماراتيون للحظة بكل حملات التشويه لمواقفهم بمقدار ما ظلوا يعملون بكل ما أمكن وبكل ما يمتلكون من وسائل حتى يستطيعوا خلق مسار لحياة ملايين يصارعون الخوف والجوع، ليأتيهم الحل عبر ممر يغيثهم ويبقيهم أحياء على أرضهم الفلسطينية.

 

لن تنعدم أخلاق الرجال الكبار وأفكارهم ومواقفهم، ويبقى التاريخ كاتباً منصفاً لشخصية استثنائية، من الإنصاف الانحياز لها. هذا هو الشيخ محمد بن زايد، وهذا هو الرجل الأكثر قوة وصلابة وتأثيراً في الشرق الأوسط خلال هذه الحقبة من الزمن.