لماذا لا يوجد "بحر اليمن"؟

2025-10-12 22:50

 

ليست الأسماء في الجغرافيا اعتباطًا، بل مرايا للوعي حين يُطلّ على ذاته عبر المكان.

وحين نتأمل الخارطة التي تصل شبه الجزيرة العربية بالمحيط الهندي، يبرز سؤال بسيط في ظاهره، عميق في دلالته:

لماذا سُمّي البحر الذي يجاور اليمن بـ بحر العرب لا بـ بحر اليمن؟.

 

الجواب لا يتعلق بالموقع فقط، بل بالهوية، فـ"اليمن" التي نعرفها اليوم لم تكن موجودة كدولة أو كيان سياسي حين وُلدت التسمية، بل كانت اتجاهًا من جهات الأرض، اسمًا للجنوب كما كانت "الشام" اسمًا للشمال.

أما الكيان السياسي فكان موزعًا بين ممالك سبأ وحِمير ومعين وقتبان وحضرموت، ولم يظهر مصطلح "اليمن" كهوية وطنية حديثة إلا في القرن العشرين.

 

أما الذين سكنوا السواحل الممتدة من عدن إلى ظفار مرورًا بالمكلا والشحر، فهم أبناء شبه جزيرة العرب الذين امتازوا بـ اللغة العربية الفصيحة وبنهجٍ وسلوكٍ ارتبط بالمدرسة الشافعية الحضرمية التي مزجت الدين بالأدب، والعلم بالتجارة، والتصوف بالعمل.

 

من تلك الحواضر خرج التجار الحضارم والعرب، فصنعوا مسار التجارة القديم الذي حمل البخور واللبان والتوابل والعطور إلى الهند وشرق آسيا وشرق إفريقيا، حتى صارت تلك المدن الساحلية محطات ضوءٍ في خرائط العالم القديم.

 

لقد كان بحر العرب هو السجلّ المفتوح لحركة هؤلاء، طريقهم إلى الرزق والدعوة والعلم، ومسارهم إلى بناء علاقة بين الجزيرة والهند وشرق إفريقيا، ولأن البحر كان مسرحًا للعرب جميعًا، لا لقبيلةٍ ولا لإقليم، غلب عليه الاسم الجامع .. بحر العرب، البحر الذي حمل لسانهم وتقاليدهم ومدارسهم الفكرية والتجارية، فصار شاهدًا على تمدّن عربي مبكر امتدّ بالموج لا بالسيف.

 

لو كانت التسمية تُبنى على الخرائط الحديثة، لربما وجدنا في الجغرافيا "بحر اليمن"، لكن الأسماء الكبرى لا تولد من الحدود، بل من الأثر الحضاري، واليمن — بما هو جزء من الجغرافيا العربية الكبرى — كان قلبًا نابضًا في هذه المنظومة لا حدودًا قائمة بذاتها.

 

لذلك، لا يوجد في التاريخ بحر يُسمى "بحر اليمن"، لأن اليمن لم تكن دولة حين كان العرب يصنعون أسماءهم على صفحة الموج، بقي البحر عربيًّا بالهوية، لأن العروبة كانت أوسع من الحدود، وأعمق من السياسة، وأسبق من الدول.

 

إنه بحر العرب، البحر الذي لم تُسمّه دولة، بل سمّته حضارة.

حضارة العرب الذين جعلوا من لغتهم سفينة، ومن تجارتهم رسالة، ومن الموج طريقًا للعالم.