ربما تظن أن السؤال لا يعنيك. تبتسم بثقة وتقول: "أنا لست إخوانيًا".
لكن تمهّل قليلًا، فالإخوان لم يعودوا تنظيمًا يُبايَع، بل أصبحوا حالة شعورية تندسّ في لاوعيك، في طريقة غضبك باسم الدين، في انفعالك حين ترى داعية يُهاجم، في دموعك حين تسمع نشيدًا عن الجهاد، وفي ارتجافك عندما يُقال إن "الإسلام مستهدف"، لست مضطرًا أن تحمل بطاقة عضوية لتكون إخوانيًا، ولا أن تذهب إلى المرشد العام لتؤدي أمامه البيعة في الغرفة المظلمة ويدك على مصحف وعلى رأسك مصوب فوهة المسدس، يكفي أن تتفاعل بالعاطفة لا بالعقل، أن تُسلم وعيك لخطابٍ يُغذّي الانفعال ويعطل التفكير، عندها تكون قد اجتزت أول اختبار دون أن تدري.
الإخوان ليسوا جماعة، بل مناخ، نَفَسٌ طويل يسكن في نبرة الخطب وفي لغة المنابر وفي مفردات الحياة اليومية، زرعوا في وعي الأمة أن الحزن فضيلة، وأن المظلومية عبادة، وأن "الحق لا بد أن يُغضب"، حوّلوا الدين إلى طاقة شعورية تتغذى على الألم، وجعلوا من الإسلام منظومة انفعالات لا منظومة قيم، وبهذا، صاروا شركاء في كل غضبٍ يتفجّر باسم الله، حتى لو لم يكونوا فيه طرفًا مباشرًا.
فكّر للحظة .. كم مرة رأيت من يصرخ باسم الدين دون أن يسأل نفسه أي دينٍ هذا الذي يُختزل في الصراخ؟ ، كم مرة شعرتَ بالرضا وأنت تبرر الغضب بأنه غيرة على الإسلام؟، هنا تكمن عبقرية الإخوان، أنهم نقلوا الإيمان من حيّز الضمير إلى ساحة المعركة، من علاقة الإنسان بخالقه إلى صراع الإنسان مع الإنسان، استملكوا العاطفة وتركوا للعقل فتاتًا من الفتوى، وأقنعوا الناس أن الحماسة فضيلة، وأن الشك خيانة، وأن من يسأل كثيرًا ربما "ضعف إيمانه".
منذ نشأتهم فهموا أن الجماهير لا تريد فلسفة، بل قصة، لا تطلب حلاً، بل خطابًا يُشعرها بأنها على حق، فحوّلوا الإسلام من رسالة إلى شعار، ومن تفكيرٍ إلى تهييجٍ جماعي، وجعلوا من "السمع والطاعة" قاعدة وجود، حتى صار الدين عندهم طاعة للقيادة لا عبادة لله، في مدارسهم، وفي مساجدهم، وفي إعلامهم، تربّى جيل كامل على أن النقد فتنة، وأن الجماعة ظلّ الله في الأرض، وأن من يخالفهم كافرٌ بالمنهج إن لم يكن كافرًا بالله نفسه.
ولأن المشاعر معدية، امتدّت العدوى إلى العالم كله، وقع اليسار الغربي في الفخ نفسه، حين رأى في الإخوان "الضحية المثالية" لأزمات الشرق الأوسط، فتبنّى سرديتهم دون وعي، وفتح لهم المنابر تحت لافتة الحرية والديمقراطية، تجربة إدارة أوباما مثال صارخ، ظنّ الرئيس الأمريكي الأسبق أنه يزرع ديمقراطية عربية، فإذا به يزرع مشروعًا إخوانيًا أوسع من حدود بلاده، استخدم الإخوان قدرات واشنطن نفسها في لحظة الانقضاض الكبرى على السلطة في الشرق الأوسط، لم يكن أوباما يدرك أن الجماعة لا تبحث عن الحكم كوظيفة، بل كقداسة، وأنها لا تريد دولة للمواطنين بل دولة للمؤمنين بها، أوباما نسخة فاضحة من المشاعر اليسارية التي غرقت في بحر الإخوان.
ذلك هو جوهر الكارثة، تحويل السياسة إلى عقيدة، والعقيدة إلى سلاح، فبدل أن يكون الإسلام دينًا يُصلح البشر، أصبح لدى الإخوان مشروعًا لتكريس انقساماتهم، خلقوا ثنائية "الفرقة الناجية" و"الفرق الهالكة"، فصار الدين الذي جاء لتوحيد الناس سببًا في تشرذمهم، اختزلوا السماء في حزب، والحق في جماعة، والنصوص في تأويل واحدٍ يخدمهم، ولأنهم لا يحتملون التعدد، كفّروا كل مختلف، وأغلقوا الباب أمام العقل.
الإخواني الحقيقي ليس الذي ينتمي إلى التنظيم، بل الذي يرى العالم من ثقب المظلومية، ويقيس الإيمان بمقدار الكراهية، ويعتقد أن الله يحتاج إلى من يدافع عنه، الإخواني في داخلك قد يكون صامتًا، لكنه يطلّ كلما سمعت من يهاجم شيخًا محبوبًا أو ينتقد فكرة دينية فترتفع داخلك غريزة "الردّ باسم الله"، هذا الانفعال هو مصنع الجماعة الحقيقي، لأنه يُنتج المؤمن الغاضب لا المفكّر المتديّن.
حتى الإعلام لم ينجُ من "أخونة الأشياء"، في غزة رأينا كيف تحوّل الدم إلى مادة دعائية، وكيف تحوّلت الكارثة إلى نشيدٍ بطولي، أكثر من سبعين ألف إنسانٍ قُتلوا في مغامرة سياسية باسم المقاومة ووقف مسار التطبيع، بينما كانت قنوات الإخوان ومَن يدور في فلكها تُنتج أفلامًا أسطورية عن الانتصار، كان المطلوب أن يبكي الناس لا أن يفكروا، أن يصفقوا للبطولة لا أن يسألوا من أشعل النار، وهكذا صار الإعلام الإخواني مرآةً للخطاب نفسه، يصنع البطولة من الموت، ويصوّر الخراب على أنه قدرٌ مقدّس، ويحوّل المأساة إلى مشهد إيماني يُخدّر الوعي ويغسل الدم.
إنهم لا يعيشون على الحقائق بل على الانفعالات، فكلّما تراكمت الهزائم صنعوا منها أدبًا في الصبر، وكلّما خسروا معركة صاغوها في قالب نبوءةٍ إلهية، يقدّسون الفشل لأن النجاح عندهم دنيوي، ويحتقرون الحياة لأنهم وعدوا الناس بالجنة، لذلك لا يشعرون بالهزيمة حتى وهم يسقطون، فالهزيمة عندهم امتحان إيماني، والنكسة دليل على أنهم "مستهدفون من الأعداء"، إنها عبقرية تحويل الفشل إلى برهان على النقاء، والدمار إلى دليل على الصواب.
الآن اسأل نفسك .. كم مرة بررت العنف لأنه "ردّ فعل طبيعي على الظلم؟"، كم مرة شعرت أن الإسلام في خطر لأن أحدهم انتقد داعيةً أو فضح فسادًا باسم الدين؟، كم مرة استخدمت "لكن" بعد كل جريمة، نعم هم أخطأوا، لكنهم يقاتلون الاحتلال، أو يقاومون الكفار، أو يواجهون المؤامرة؟، كل "لكن" من هذه اللاءات الصغيرة دليل على أن الإخواني فيك لا يزال يتنفس.
المسألة لم تعد تنظيمًا ولا حزبًا، بل ثقافة تعيش فينا، الإخوان سقطوا في السياسة لكنهم انتصروا في التسلل إلى المشاعر، جعلوا التدين مرادفًا للغضب، والورع ممرًا للانفعال، والإيمان بطاقة انتماء، الخطر اليوم ليس في وجود الجماعة، بل في أثرها الباقي. عقلٌ يرفض التفكير، وجمهورٌ يتغذى على الانفعال، وإسلامٌ اختُزل في الشعار.
أن تكون مسلمًا لا يعني أن تكون إخوانيًا، لكن أن تُسلّم مشاعرك لمن يتحدث باسم الله، أن تخلط بين الدين والجماعة، وأن تجعل من الغضب طريقًا إلى الإيمان فذلك يعني أنك بدأت الاختبار وسقطت فيه.