على أعمدة صحيفة «الاتحاد» الإماراتية، أطلق عراقي سهمه بارعاً ليصيب الذاكرة العدنية بسهم أصاب به ثقباً لم يوجع، بمقدار ما هو حفّز الذاكرة على أن تسترد شيئاً من وعيها بمستدركات الأشياء والوقائع الماضي عهدها.
ففي مقالته المعنونة بـ (علي ناصر محمد: «ذاكرة وطن»)، استورد رشيد الخيون حامل لقب أفضل عمود صحفي في جائزة الصحافة العربية شيئاً مما يجب أن يستورد من تاريخ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، التي لم تذب بعد، فمازال علمها يرفرف وشعبها حيّاً يرزق يناضل لاستعادتها.
ومع كل الاستيراد، فإن ما يجب أن يقال عند الصورة لآخر دولة الرفاق كثير ومشحون بالسياسة، وبما يستدرك له أن يروى لجيل لم يعرف عن الدولة، إلا أنها كانت ماركسية الاتجاه. عندما التقطت صورة الرؤساء علي سالم البيض، وعلي ناصر محمد، وحيدر أبو بكر العطاس كانت تجسّد مرحلة لبعث الدولة من مرقدها الذي أريد لها أن تقبّر فيه.
ما تم تكريسه بعد أحداث يناير 1986، باعتباره نهاية للدولة الوطنية في الحد الأسفل من شبه جزيرة العرب كان ثقيلاً جداً، حتى أن حرب صيف عام 1994 كانت حقيقة من حقائق الهزيمة النفسية، التي أتت على الشعب في الوطن والشتات، حرب أهلية دامية فيها ما فيها وعليه ما عليها.
ويمتلك هذا الجيل من وثائقها ما يستطيع تداوله، فهي تاريخ مضى، غير أن صورة الرفاق الثلاثة نفسها أيضاً حقيقة أخرى جاءت بعد زفرات من شعب كان للتّو ينهض في الحراك السلمي الرافض لوقائع ما فرضه الأفغان العرب وحلفاؤهم من القبليين المتعصبين مذهبياً القادمين من مجاهيل التاريخ. منذ عام 1997 انتفضت المكلا حاضرة حضرموت، وسار الركب كما هي سيرته عبر الأزمنة ميمماً ناحية وجهته التاريخية عدن.
مسيرات شعبية ممتدة تحدت القنابل المسيلة للدموع، وكانت عصية على السجون والمحاكمات والمطاردات الأمن السياسي، وهو جهاز المخابرات في عهد علي عبدالله صالح.
ما لم تدركه صنعاء جيداً آنذاك أن جيلاً كان يؤمن بأنه سيكون جيل الوحدة كان كافراً بهذه الوحدة، باغضاً لكل ما جاءت به من تعصبات قبلية ومذهبية وتطرف ديني وفوضى عارمة. شبان الحراك الجنوبي اتخذوا طريقهم حتى أعلنوا في 2006 «التصالح والتسامح»، رغم أن هذا الجيل لم يكن معنياً بحوادث دولة الرفاق. فلم يعرفوا زوار الفجر، ولا حتى الانتماء الطليعي ومحاربة البرجوازية.
عند صورة «آخر الرفاق» نقف لنلتفت إلى عدن التي وقفت على ساحلها يوماً وأنا ممن يُشار إليهم بـ «الموالده»، أي الذين ولدوا في بلاد الشتات، لأنظر إلى الصورة بزهو كما ينظر العالم إلى جنوب أفريقيا وراوندا على اعتبارها نماذج بهيّة للدول المتعافية من الحروب الأهلية. فلم تعرف بغداد وبيروت ودمشق وغيرها من عواصم العرب بعد ما صنعته عدن في تصالحها وتسامحها الشعبي الذي أجبر السياسيين أن يقفوا بجوار بعضهم ليلتقطوا صورة تمنح الشعب وشاحاً ذهبياً في سبيل مسيرته للخلاص من الذاكرة الدامية، فهو يمضي في علاجها ومداواتها تاركاً الماضي ذاهباً للغد.
ما مضى مضى والصورة كذلك مضت تلغيها صور تتالت، فعلى منصة عدنية، وفي نهار غاضب، التقطت صورة لرجال اليوم في إعلان عدن التاريخي. لقطة بلقطة لم تلغِ الزمان، إنما جسدت الحاضر المعنيين به والمنشغلين فيه.
كانت دولة اليمن الجنوبي حقيقة تستحق التحية، فلها تجربتها القومية مهما كانت العيون الحارقة في نقدها وذمها، فلها إرثها المحمول لزمن وقف فيه العرب شهوداً على أن جيلها المعاصر كان حائطاً عالياً انهزمت عند أسواره مطامع الغزاة «الحوثيين» واختلط على ترابها دم الجنوبي بالإماراتي أول شهداء تحرير عدن في ملحمتها الأعظم، وهي تحطم المؤدلجة عقولهم، لكل زمن دولة ورجال وهذه هي عدن اليوم أبهى بواقع ما يصنعه الرفاق الجدد.